خواطر الإمام الشعراوي .. تـحـمـل تبـعـات الإيـمـان

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

يبدأ الشيخ الشعراوى خواطره لتفسير الآية رقم (214) من سورة البقرة: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ».

يقول: أى أظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون ابتلاءات تحدث لكم؟ إن الحق سبحانه ينفى هذا الظن ويقول: ليس الأمر كذلك، بل لابد من تحمل تبعات الإيمان، فلو كان الإيمان بالقول لكان الأمر سهلاً، لكن الذى يُصَعِبُ الإيمان هو العمل، أى حمل النفس على منهج الإيمان، لقد استكبر بعض من الذين عاصروا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: (لا إله إلا الله) لأنهم فهموا مطلوبها؛ لأن الأمر لو اقتصر على مجرد كلمة تقال بلا رصيد من عمل يؤديها، لكان أسهل عليهم أن يقولوها، لكنهم كانوا لا يقولون إلا الكلمة بحقها، ولذلك أيقنوا تماما أنهم لو قالوا: (لا إله إلا الله) لانتهت كل معتقداتهم السابقة، لكنهم لم يقولوها؛ لأنهم أبوا وامتنعوا عن القيام بحقها وأداء مطلوبها، إن الحق يقول: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء» فما العلاقة بين هذه الآية وما سبق من الآيات؟ لقد كان الحديث عن بنى إسرائيل الذين حسبوا أنهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا، وصارت لهم أهواء يحرفون بها المنهج، أما أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليهم أن يستعدوا للابتلاء، وأن يعرفوا كيف يتحملون الصعاب، ونحن نعرف فى النحو أن هناك أدوات نفى وجزم، ومن أدوات النفى (لم) و(لما) فعندما نقول: (لم يحضر زيد) فهذا حديث فى الماضي، ومن الجائز أن يحضر الآن، ولكن إذا قلت: (لما يحضر زيد) فالنفى مستمر حتى الآن، أى أنه لم يأت حتى ساعة الكلام لكن حضوره ومجيئه متوقع، ولذلك يقول الحق: «قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ» «الحجرات: 14». وعندما سمع الأعراب ذلك قالوا: نحمد الله، فمازال هناك أمل أن نؤمن، لقد أراد الله أن يكون الأعراب صادقين مع أنفسهم، وقد نزلت هذه الآية كما يقول بعض المفسرين فى قوم من بنى أسد، جاءوا إلى المدينة فى سنة جدب، وأعلنوا الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وكانوا يطلبون الصدقة، ويحاولون أن يمنوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يقاتلوه كما فعل غيرهم، فجاءت هذه الآية لتوضح أن الإيمان درجة أرقى من إظهار الإسلام، لكن ذلك لا يعنى أنهم منافقون، ولذلك يوضح القرآن الكريم أن إظهار الإسلام لا يعنى الإيمان؛ لأن الإيمان عملية قلبية، لقد أعلنوا الخضوع لله، وأرادوا أن يقوموا بأعمال المسلمين نفسها لكن ليس هذا هو كل الإيمان. وهم قالوا: «آمَنَّا» فقال الحق لهم: لا لم تؤمنوا وكونوا صادقين مع أنفسكم فالإيمان عملية قلبية، ولا يقال إنك آمنت؛ لأنها مسألة فى قلبك، ولكن قل أسلمت، أى خضعت وفعلت مثلما يفعل المؤمنون، فهل فعلت ذلك عن إيمان أو غير إيمان، إن ذلك هو موضوع آخر، هنا تقول الآية: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم» أى لا يمكن أن تدخلوا الجنة إلا إذا جاءكم من الابتلاء مثل من سبقكم من الأمم ولابد أن تُفتنوا وأن تمحصوا ببأساء وضراء، ومن يثبت بعد ذلك فهو يستحق أن يدخل الجنة، فلا تظنوا أنكم أمة متميزة عن غيركم فى أمر الاختبار، فأنتم لن تدخلوا الجنة بلا ابتلاء، بل على العكس سيكون لكم الابتلاء على قدر النعماء، أنتم ستأخذون مكانة عالية فى الأمم ولذلك لابد أن يكون ابتلاؤكم على قدر مكانتكم، فإن كنتم ذوى مكانة عالية وستحملون الرسالة الخاتمة وتنساحون فى الدنيا فلابد أن يكون ابتلاؤكم على قدر عظمة مسئوليتكم ومهمتكم، «وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ» إن قول الله: «وَلَمَّا» يفيد بأن ما حدث للذين من قبلهم من ابتلاء عليهم سيقع على المؤمنين مثله، وعندما نتأمل قوله الحق: «وَزُلْزِلُواْ» فأنت تكتشف خاصية فريدة فى اللغة العربية، هذه الخاصية هى تعبير الصوت عن واقعية الحركة، فكلمة (زلزلوا) أصلها زلزلة، وهذه الكلمة لها مقطعان هما (زل، زل)، و(زل): أى سقط عن مكانه، أو وقع من مكانه، والثانية لها المعنى نفسه أيضًا، أى وقع من مكانه، فالكلمة تعطينا معنى الوقوع المتكرر: وقوع أول، ووقوع ثانٍ، والوقوع الثانى ليس امتدادًا للوقوع الأول؛ ولكنه فى اتجاه معاكس، فلو كانت فى اتجاه واحد لجاءت رتيبة، إن الزلة الثانية تأتى عكس الزلة الأولى فى الاتجاه، فكأنها سقوط جهة اليمين مرة، وجهة الشمال مرة أخرى، ومثل ذلك (الخلخلة) أى حركة فى اتجاهين معاكسين (خَلّ) الأولى جهة اليمين، و(خَلّ) الثانية جهة اليسار، وبهذا تستمر الخلخلة، وهكذا (الزلزلة) تحمل داخلها تغير الاتجاه الذى يُسمى فى الحركة بالقصور الذاتي، والمثال على ذلك هو ما يحدث للإنسان عندما يكون راكبًا سيارة، وبعد ذلك يأتى قائد السيارة فيعوقها بالكابح (الفرامل) بقوة، عندئذ يندفع الراكب للأمام مرة، ثم للخلف مرة أخرى، وربما تكسر زجاج السيارة الأمامى حسب قوة الاندفاع؛ ما الذى تسبب فى هذا الاندفاع؟ إن السبب هو أن جسم الراكب كان مهيأ لأن يسير للأمام؛ والسائق أوقف السيارة والراكب لا زال مهيأ للسير للأمام، فهو يرتج، وقد يصطدم بأجزاء السيارة الداخلية عند وقوفها فجأة، وعملية (الزلزلة) مثل ذلك تمامًا، ففيها يصاب الشيء بالارتجاج للأمام والخلف، أو لليمين واليسار، وفى أى جهتين متعاكستين، و«وَزُلْزِلُواْ» يعنى أصابتهم الفاجعة الكبرى، الملهية، المتكررة، وهى لا تتكرر على نمط واحد، إنما يتعدد تكرارها، فمرة يأخذها الإيمان، ثم تأخذها المصائب والأحداث، وتتكرر المسألة حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه: «متى نَصْرُ الله»؟.