..عندما تشتد العواصف وترتفع أمواج البحار وتغيم السماء لتحجب الرؤية على قباطنة السفن ويصبح مسار الاتجاه الصحيح محل شك لا يبقى أمام القباطنة وكل من على السفينة سوى البوصلة ترشدهم إلى بر الأمان، فالبوصلة لايؤثر فى مؤشرها شدة عواصف أو كثيف الضباب لأن اتجاهها دائمًا ثابت ومحدد إلى النجاة ولا يقبل التأويل.
لايختلف عالم السياسة عن عالم البحار فعالم السياسة يعرف عواصف وأعاصير أشد من عالم البحار وعواصف السياسة لا تغرق سفنًا أو تجنح بركابها على شاطئ صخرى خطر، بل تغير موازيين معادلات القوى وترفع أممًا وتخفض أخرى ويصبح ماقبل العاصفة السياسية غير تمامًا مابعدها.
الآن تمر على شرقنا الأوسط عاصفة سياسية تصل فى حدتها إلى درجة الإعصار يطيح فى حركته بالموازيين والتوازنات والحسابات والمصالح ليجرد هذا الشرق الأوسط من واقعه القديم وترسم الرياح العاتية لهذا الإعصار واقعًا جديدًا لهذا الأوسط الملاحق بالعواصف والأعاصير السياسية.
وسط هذه الأوقات الفارقة من التاريخ والساعات التى تتقلب فيها الرؤية بين الشك واليقين فى البحث عن صحة الاتجاه ودقة المسار تبقى البوصلة كما فى عالم البحار لا تتأثر ودائمًا تشير للاتجاه الصحيح وتصل بالأمة كما السفينة إلى برالأمان .
فى هذه اللحظات الحاسمة يجب على كل منا أن تشتد قبضته على هذه البوصلة ويراقب فى انتباه ماتشير إليه من اتجاه واختيار صحيح وسط هذا الاضطراب ، إن بوصلتنا التى يجب أن نتمسك بها ولا نحيد عن اتجاهها هى هويتنا المصرية التى هى القول الفصل بين الشك واليقين فى اتخاذ القرار.
يحدثنا تاريخ الأمة المصرية بأمانة وصدق أنه طالما كانت هويتنا المصرية الأصيلة المتجذرة فى شخصيتنا هى المنارة التى نتطلع إليها والراية التى نسير وراءها كانت الانتصارات وعندما انحرفنا عنها وأنكرناها كانت الانكسارات وضياع الطريق الصحيح.
يمكن استدعاء الأمثلة على طوال تاريخ مصر القديم والحديث، فهذا القديم هو مهد هذه الهوية الأصيلة والطاقة التى نستمد منها قدرة الحركة ومواجهة التحديات فعلى ضفاف النيل ولدت الهوية المصرية وتجذرت فى شخصيتنا فكانت مصر امبراطورية جبارة تحكم العالم القديم وتعلم البشرية ألف باء الحضارة والإنسانية وورثنا الأجداد العظام هذه الجينات الامبراطورية الموجودة فى دماء كل مصرى ، هذا المصرى الذى لايقبل إلا بمصر متفوقة فى وضع السيادة ولا يرضى أبدًا أن تكون هذه الأمة الرائعة على هامش التاريخ.
لقد صنع الأجداد هوية أصيلة حقيقية بلا ادعاء أو شفونية ،هوية قائمة على العقل الناقد والعلم والفنون وحسن الإدارة وحفظ كرامة الإنسان والتسامح ثم احترام يصل إلى حد التقديس لوجود مصر كفكرة إنسانية ملهمة للمجتمع البشرى تمده بالحضارة والتمدن ولعل أول المدد كان تأسيس مفهوم الدولة كمنظم للعمل الإنسانى لتحقق العدالة والأمان والرفاهية للمجتمعات البشرية.
فى تاريخنا الحديث لا نستطيع أن نقول بأن هويتنا المصرية كانت هى بوصلتنا دائمًا فى تحديد رؤيتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، سيطرت للأسف هويات بديلة على الشخصية المصرية وعلى المجتمع فأزاغت رؤيتنا فى أنفسنا وموقفنا من العالم وبسبب هذا الزيغ خسرت هذه الأمة العريقة الكثير من منجزها على كافة المستويات.
دفعت الهويات البديلة قرارنا السياسى والاقتصادى والاجتماعى إلى مسارات بعيدة تمامًا عن حقيقتنا وهويتنا وجذرنا الحضارى بل وصل الحال الرديء إلى إنكار هويتنا والعمل على تدميرها بأيدينا من أجل هويات غريبة عن حقيقتنا فذات مرة تكون عروبية سياسية منتحلة تروج لها شعبوية مزعجة تدفعنا وراء أهداف بعيدة تمامًا عن مشروعنا الوطنى الحضارى الذى كان يتم بناؤه وقتها بالفعل ولايحتاج إلى أى غطاء زائف من أجل العمل عليه، ثم يصل هذا الاندفاع الأحمق الى درجة إخفاء الاسم السابق للتاريخ ذاته وهو اسم مصرالخالد وماذا كانت العواقب ؟ ارتهن القرار السياسى إلى هوية منتحلة فكان الانكسار والفقد.
تتسلل هوية أخرى منتحلة ولكن هذه المرة باسم الدين والدين من الصفقات التى جلبت علينا هذه الهوية المتسللة براء وماذا كانت العواقب ؟ انطلق الفاشيست الإخوان وأذنابهم من المتسلفة فى عملية تشويه وغسيل مخ لهذا المجتمع ليصبح مجتمعًا متأثرًا بأفكار لا تتوافق مع قيمه الحضارية التى توارثها على مدار آلاف السنين ويشيع التخلف والخرافة فى أرجائه وكانت نتيجة هذا التشوه سنوات عجاف من الإرهاب الأسود راح ضحيته الأبرياء وخسائر على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
قد يظن البعض أن مفهوم الهوية المصرية مفهوم جامد أو أن دعوة التمسك بالهوية تعنى العودة إلى الماضى لكن الحقيقة أن الهوية المصرية تفاعلت مع كل ماهو قادم وبالذكاء المصرى اكتسبت أبعادًا أخرى أضافت إلى قوتها الناعمة مزيدًا من القوة فامتدت ببعدها الحضارى إلى آفاق حضارية على المستوى العربى والإسلامى كما الإفريقى والمتوسطى ليمتزج كل ذلك فى بوتقة الهوية المصرية لتصبح أكثر تنوعًا.
حكم هذا التنوع أمرين غاية فى الأهمية أولهما أن النواة الصلبة فى هذا التفاعل هى هويتنا المصرية الأصيلة وأن كل مكتسب لا يطغى على أساسيات هذه الهوية، والأمر الثانى أن هذا التفاعل والتنوع يتم على المستوى الحضارى العام ولا يتداخل مع صلب القرار السياسى والاقتصادى والاجتماعى فهذا القرار يتم وفق رؤية الأصل أو الهوية المصرية ومشروعها الحضارى الذى يستطيع الاستيعاب والتفاعل مع كل الأفكار الإقليمية والدولية من أجل هدف أول وهو تحقيق مصالح الأمة المصرية.
بالتأكيد تسببت هذه الهويات البديلة والمنتحلة فى كثير من الأضرار والخسائر كما أوضحنا لكن جاءت ثورة الـ 30 من يونيو قبل 10 سنوات لتعطى قوة دفع غير مسبوقة لمفهوم الهوية المصرية وتعمل على تخليص المجتمع من التشويه الذى أصابه نتيجة هذا الانتحال ، فى خلال عشر سنوات بدأ استعادة الوعى بهويتنا الأصيلة وقد أسهمت الدولة بدور كبير فى هذه الاستعادة هذا غير الحراك المجتمعى الطبيعى الناتج عن المد الثورى الذى عمل على إزالة آثار عدوان الهويات البديلة والمنتحلة.
أشارت الكثير من الوقائع خلال العشر سنوات الماضية إلى فاعلية ونجاح هذا الإسهام من الدولة والحراك المجتمعى ولعل آخر هذه الوقائع هجوم عصابات العولمة على حضارتنا المصرية القديمة محاولين سرقتها ونسبها إلى مجهولين من أجل أغراض بعيدة المدى يطول شرحها فكان التصدى لهذه الهجمة الشرسة على حضارتنا من أجيال شابة بدأت تستعيد هويتها وأهمية الحفاظ عليها فى مواجهة الآخر وكان للسنوات العشر الماضية وما جرى فيهم من إسهام وحراك فضل كبير فى هذه الاستعادة.
تجوب الآن العواصف والأعاصير السياسية والاستعمارية منطقتنا وتعود مشاهد من القرن التاسع عشر حيث تقف الأساطيل والبوارج متحفزة، تشير هذه المشاهد والأحداث إلى تحولات كبرى على كافة المستويات لتدخل هذه الأمة العريقة فى تحديات ليست هينة وللحقيقة الأمة المصرية اعتادت طوال تاريخها الممتد على هذه التحديات ومواجهتها محققة الانتصار على كل من أراد النيل منها.
يتطلب هذا النصرمنا أمرًا أساسيًا أن ننظر بانتباه إلى بوصلتنا التى ترشدنا إلى الطريق الصحيح. بوصلتنا هى هويتنا المصرية التى ستدلنا على كيفية تحقيق مكتسبات لصالح أمتنا المصرية وسط هذه العواصف والأعاصير وتصل بنا إلى بر الأمان بعيدًا عن كل الهويات البديلة والمنتحلة ستذكرنا هويتنا عند كل قرار بعظمة أمتنا المصرية وأننا كنا ومازلنا وسنظل ونؤكد إلى أبد الدهر نحن مصريون.