«يوميات قاض21» قصة قصيرة للكاتب بهاء المري

بهاء المري
بهاء المري

ربما كان شاذًّا، ربما مجرَّد مجرم، ولكنَّ أمره كان مُحيِّرا، جاوز الستين من عمره بقليل، قبضوا عليه بعد جهد مُضنٍ ليفك ألغاز حادثتين مماثلتين، كانتا تدلان على أن فاعلَهما المجهول شخصٌ واحد.

ومما زاد تعقيد البحث أنَّ الضَّحايا في ذلك المجتمع البدوي كُنَّ يؤثرن كتْم نزف جراحهن على البَوح بتفاصيل ما كان، ووأد الفضيحة إيثارًا على عقاب فاعلها مهما كانت الآلام.

لم يَشغلني أمر الجريمة وأدلتها ومدى ثبوتها، بقدر ما شغلني أمره هو شخصيًا، فكم من جرائم بعد حصولها نجد أنَّ الخيال كان يَعجز عن تصورها لولا أنها وقعَت.

جثة لسيدة على مَشارف الثمانين من عمرها، عثروا عليها في فناء مسكنها البدوي المُكوَّن من غرفة واحدة معروشة بالأحطاب، ومن أمامه فضاء مُسَوَّر، طعناتٌ مُتعدِّدة بالصدر والبطن أودت بحياتها، ملابسها العلوية ممزقة، وانحسرت عنها ملابسها الداخلية فأظهرت عَورتها، وتقبض بيدها على خُصلة من شَعْر آدمي يشُوبه البياض.

الفاعل مجهول لعدة أيام؛ حتى قال شاهد إنه رآه قُرب منتصف تلك الليلية الصيفية يمُرُّ بجوار سور عِشَّتها، شَعْرُ رأسه الذي يشوبه البياض غير منتظم وغابت عنه خُصلة بدا الفراغ الذي كانت تملؤه بوضوح، وآثار خدوش في ساعديه تَحدُث من مثل الأظفار، وبتفتيش مسكنه عثروا على سكين مطبخ كبيرة ملطخة بالدماء، لم يجد المتهم مَناصًا من الاعتراف.

صنعَتْ الحياة الصحراوية من بُنيانه الجِّسمي نَحافة جعلته يبدو في مظهر رجل في الأربعين من العُمر، ويعطيه مظهر صحة واضحة، يعيش بمفردة في عِشَّة داخل سور مبنى من الطوب الحجَري، لا زوجة له ولا ولَد، اعتاد السَّهر والسُّكر بما يحصل عليه من نقود يسرقها، أومن ثمن ما يسرقه من أشياء يبيعها بَثمن بَخس، يلفظه الناس لسوء أخلاقه ولا يستعملونه في أي عمل. 

تاقت نفسه إلى ممارسة الرذيلة، فاستلَّ سكين المطبخ وخرج يعرف وجهته، هوايته ومتعته في اغتصاب السيدات المُسنَّات اللائي يعلم أماكن إقامتهن وظروف حياتهن، أدْلى بأسماء أربعة فَعَل بِهنَّ ذات الفعل ولم تُبلغ اثنتان منهنَّ، كانت أولاهما وثانيتهما قد أبلغتا مع تخفيف وطأة الحدَث درءًا للعار، قالتا في حينه إن مجهولًا حاول ذلك وقاومتاه فلم يبلغ مأربه، ولكنه مسَّ منهما عورة، جاؤوا بمن لم تُبلغا فأنكرتا ما قاله من أنه اغتصبهما خوفًا من الفضيحة.  

في تلك الليلة تذكَّرَ القتيلة، كانت من صديقات والدته، يعرف تفاصيل حياتها، تعيش بمفردها ولا يزورها أقاربها إلا كل حين نهارًا من خلال مرور عابر بها، قال إنها كانت نائمة، اقترَبَ منها يتحسَّس جسدها، فزعت من نومها، قاومته دفاعًا عن عِرضها مقاومة شرسة لم يكن يتوقعها، لم يتمكن منها رغم قوته التي تعادل أضعاف قوتها، عرفَتْه، نادته باسمه وهي تلعنه، أسقِطَ في يده، إن لم يقتلها قَطَّعه أهلها إربًا وألقوا بلحمه إلى الطير.

الدليل لا نِقاش فيه من حيث قوته، اعترافٌ وتقرير معمل باثولوجي عن شَعْره الذي ماتت وهي تقبض عليه، وآثار من جِلده في أظفارها، وفصيلة دمها على السكين.

 كان ما يشغلني هو أمر آخر، لماذا السيدات المسنَّات بالذات؟!

في جلسة سرِّية ناقشْتُه، جعَلتُه دون أن يشعر يَعرُج على ما أتغيَّاهُ من مناقشته، كان وحيدًا لأبوين يرعيان الغَنَم، في صِباه ماتا وتركاه لجدَّته الصارمة القاسية، كانت تكويه بالنار لتدفعه مِهنة والده وهي رَعْي الغنم، فلم يقبل، ساءت أحواله وباعت جدَّته الغنم، ولم يفلح في إيجاد عمل، كان يسرق ويكذب ويعود لها بما يسُد رمقهما مُدَّعيًا ممارسته لأيِّ حرفة، وكان ينام بجوارها حتى بلغَ الحُلُم.

غلبَهُ شيطانه ذات يوم وتحرَّش بها وهي نائمة، تمكَّنَت منه وأوثقته إلى عامود الخيمة وأوسعته ضربًا مُبرِّحًا وكَيًا بالنار كاد أن يُودى بحياته، ومنعَت عنه الطعام يومين كاملين لم يذُق إلا شَربة ماء كل حين وحين حتى لا يموت، ثم طردته طردًا نهائيًا فهام في الصحراء على وجهه من دون عمل، ولم يَعُد إلى عشَّتها إلا بعد وفاتها، ثم باع دارها وبدَّدَ ثمنها وأقام لنفسه عِشَّة عند زاوية في مُنعطف طريق تأويه نهارًا حتى إذا جَنَّ الليل خرج لممارسة جميع أشكال جُرمه وأبرزها اغتصاب المُسنَّات حتى كانت واقعة هذه العجوز لِيُؤخَذَ بها وبما سَلَفَ مما أتى.