علاء عبد الهادى يكتب : روح أكتوبر

علاء عبد الهادى
علاء عبد الهادى

الحديث عن انتصارات أكتوبر، ليس حديثا عن ماضٍ انتهى، وذهب لحال سبيله قبل نصف قرن من الآن، الحديث عنها إنما هو فى حقيقة أمره مدخل لا غنى عنه للحديث عن واقع نعيشه بكل تحدياته، وحديث أيضًا عن مستقبل نطمح إليه، وفى هذا الإطار يمكن أن تفهم وتستوعب حرص الرئيس عبد الفتاح السيسى على استدعاء «روح أكتوبر» ومحاولة تذكير المصريين بها، من آن إلى آخر، مع كل تحدٍ من التحديات الجسام التى تستلزم استنهاض الهمم، وما أكثر ما أصبحنا نواجه من تحديات، وعلى رأسها تحدى بقاء هذا الوطن آمنًا مستقرًا، واحةً للأمان وسط محيط محترق، مضطرب. 

لذلك لم يستغرب المصريون تشبيه الرئيس فى أحد خطاباته إمكانيات مصر أثناء حرب أكتوبر 1973 بامكانيات السيارة «السيات»، مقارنة بامكانيات بامكانيات السيارة «المرسيدس»، فى إشارة إلى إمكانيات إسرائيل المدعومة بترسانة السلاح الأمريكية، ورغم ظلم المقارنة، فعلها المصريون، وحققوا ما  اعتبره العالم، وقتها، المستحيل بعينه،وعندما توحدت إرادة المصريين، وصدقوا العزم وأعدوا العدة وأخذوا بأسباب العلم، وأعادوا بناء القوات، فعلوها، وكسروا هامة الجيش الذى قالوا إنه لا يقهر، بل وقطعوا أوصال ذراعه الطويل فى الساعات الأولى للحرب.

 

الطبيعى أن نستدعى كل عام أحلى ذكرى، ونحتفى بأعظم انتصارات مصر، ذكرى عودة الروح لمصر والمصريين، ذكرى عبور الخوف، والقفز على الهزيمة، ذكرى يوم الفخر والشرف والعزة للجيش المصرى الذى قام بعملية عسكرية تُدرس إلى الآن فى الأكاديميات العسكرية.

أحزن عندما اكتشف أن هناك شبابًا لا يعلمون عن انتصارات أكتوبر إلا النذر اليسير، وتبلغ المأساة ذروتها عندما لا يعرف البعض، حتى تاريخ السنة التى وقعت فيها الحرب، قد يقول قائل إن هذا اجترار لا محل له من الإعراب، لحرب وقعت قبل عقود خمسة، والآن تربطنا بعدو الأمس اتفاقية سلام.. أصحاب هذا الرأى لا يدركون من حقائق الأمور شىء، فحديث اليوم وغدًا، إنما هو امتداد لما دار بالأمس، ولولا أكتوبر، لما وافقت إسرائيل صاغرة على توقيع اتفاقية السلام التى أعادت بموجبها كامل الأراضى المصرية التى احتلتها فى عام 1967.

العالم حتى اليوم يقف ويحتفل بذكرى الحرب العالمية الثانية، رغم أن أطرافها أصبحوا حلفاءً فى معسكر سياسى واحد، بل ويجمعهم حلف عسكرى واحد، لكن هذا لا يمنع الاحتفال بكل الصور، فما بالنا بنصر شهد به العدو قبل الصديق.

فى كل بيت من بيوت قريتى فى ريف قويسنا المنوفية، كان هناك شهيد، تزين صورته ببزته العسكرية جدار الدار الخالية من أبسط الخدمات، ولكنها كانت عامرة بالمحبة والإيمان بعدالة القضية: يابخت الشهيد ضمن جنته، يابخت أمه وأبوه، ضمنا من سيأخذ بهما إلى الجنة!

لم يتغير الأمر كثيرًا عندما انتقلت طفلًا مع أسرتى إلى مدينة شبين الكوم..نفس الإحترام والتقديس لروح الشهيد: «ياسين ابن عمتك استشهد فى العدوان الثلاثى، وأنور ابن خالك لحق به فى النكسة التى كانت عارًا ما بعده عار، ليس لأننا انهزمنا، بل لأننا لم نحارب أصلا، ولأن طابور الشهداء طويل، فقافلته ممتدة إلى أشرف حرب وأعظم حرب مهدت الطريق لمعركة النصر: حرب الإستنزاف، استشهد فيها العريس حسنين الذى كتب كتابه ولكن كان زفافه إلى عروسه فى الجنة، وناروز ابن عمك جرجس النجار فى أطراف الكفر كلاهما استشهد فى معركة رأس العش».. كانت الحياة صعبة على الجميع، الرفاهية معدومة لأن «الجبهة» أولى بكل مليم، الكل يحتمل بنفوس راضية.

اشتد عودى، وبدأت من العام الماضى صيام رمضان، أنا رجل فى الصف السادس الابتدائى ولابد أن أصوم، مضت تسعة أيام من شهر رمضان عام 1973، وفى اليوم العاشر، كان يوم سبت، بداية الأسبوع، ولم يكن هناك ما ينبئ بأنه سيكون مختلفًا عما سبقه، برامج الإذاعة حاضرة بقوة، ننتظر ظهيرة كل يوم مسلسل فؤاد المهندس، وشويكار وبعد الإفطار نتحلق حول الراديو نسبح فى عالم الخيال مع صوت زوزو نبيل تأخذنا إلى عوالم ألف ليلة وليلة، وفوازير ثلاثى أضواء المسرح فى التليفزيون الذى لم يكن موجودًا إلا فى شقتين فقط من العمارة.

قبيل عصر يوم السادس من أكتوبر، عاشر يوم فى رمضان كنت فى الشارع اشترى لأمى طرشى، وكنافة رمضان من محل «الباشا» للحلويات، وفى طريق العودة، فوجئت بصياح وصراخ مع زغاريط فى الشوارع، وتجمع الناس أمام محلاتهم، يتبادلون التهانى مرددين: الله اكبر.. الله أكبر عبرنا القناة.

لا أدعى أننى وقتها كنت مدركًا لمعالم الصراع العربى - الإسرائيلى، فى بداية العام سمعت لأول مرة، الكثيرعن سيناء ( كان والدى رحمه الله يحرص على قراءتها بفتح السين )، وكيف أنها جزء غالٍ من أرض الوطن تحتله إسرائيل، عرفت بذلك عندما قامت إسرائيل قبل الحرب بستة شهور باسقاط طائرة مدنية ليبية دخلت أجواء سيناء بالخطأ فاطلقت عليها صاروخ سام 6 واسقطتها وفيها المذيعة الشهيدة سلوى حجازى.

استوقفنى قلق أبى، وكثرة تقليبه لمؤشر الإذاعة.. لماذا يقلق أبى؟ ومن أى شىء يخاف؟ 

وقتها لم استوعب، عرفت عندما كبرت قليلًا سر خوف أبى من تكرار سيناريو 1967. 

مارست هوايتى المبكرة، فى شراء جرائد الصباح للأسرة بمجرد وصول قطار الصحافة بعد صلاة الفجر إلى محطة قطارات شبين الكوم، قلبت كل الصفحات، قبل أن يأخذها أبى، وإلى فوق سطوح بيتنا الذى كان لازال دورًا واحدًا كنت أتخفى ليلا ومعى جهاز الراديو لكى أضبط مؤشره على قناة هيئة الإذاعة البريطانية، وإذاعة مونت كارلو، وكذلك إذاعة الجيش الإسرائيلى الناطقة بالعربية. أتابع نشرات الأخبار، ومن كل هؤلاء عرفت أننا فعلناها واقتنصنا النصر على جيش أرادوه جيشًا لا يقهر، ولكننا قهرناه وكسرنا أنفه. 

تحديات أكتوبر، من وجهة نظرى، قائمة ومستمرة، وإن تغيرت صورها، وإذا كان عدو الأمس كان صريحًا واضحًا، فقد استبدلوه لنا بأعداء كُثر، بعضهم من بين ظهرانينا، محسوبون علينا، وهم أسوأ من أعدى الأعداء، يأكلون من أكلنا، ويتنسمون هواء هذا الوطن، وفى الوقت ذاته يصبون السم الزعاف، من حيث لا نحتسب.

ما أحوجنا إلى استدعاء روح انتصارات أكتوبر، لمواجهة ما أراه أصعب من عبور خط بارليف.

على عظمة ما كُتب من أعمال إبداعية لكبار كتابنا وأدبائنا الذين عاصروا الحرب، أرى أنها كانت قاصرة، عاجزة عن تجسيد عظمة وروعة ماحدث، وبنظرة بسيطة ستجد أن نكسة 67 ربما كانت ولا زالت أكثر حضورًا فى الأعمال الإبداعية عن نصر أكتوبر، هل هى عقدة جلد الذات، أم جين مصرى أصيل يجعلنا نبكى، فى الوقت الذى يجب فيه أن نفرح ونسعد.

قناعاتى أن كل حبة رمل فى سيناء ارتوت بدم شهيد، هى قصة نحتاج أن نعرفها ونراها فى عمل درامى على الشاشة، ولو استبعدنا الأفلام المحدودة التى تناولت حرب اكتوبر (التى يغلب على بعضها السذاجة) سنجد أننا لازلنا فى حاجة إلى عدة أفلام تستلهم روح أكتوبر وبإنتاج ضخم يليق بحجم الإنجاز، وما أكثر القصص الواقعية التى تفوق بسحرها وجمالها، وعظمتها، خيال أعظم الروائيين، الأجيال الحالية ستتعرف أكثر على حقيقة ما حدث من خلال فيلم من نوعية فيلم «الممر» الذى عُرض منذ سنوات، وتناول بقصة إنسانية رائعة وجهًا ناصعًا وجميلًا لمصر ليس أثناء انتصارات أكتوبر بل أثناء حرب الاستنزاف التى كان هدفها ألا يهنأ العدو بما حقق فى 67، وكانت الطريق لانتصارات أكتوبر المجيدة.