«ويبقي الحب» قصة قصيرة للكاتبة صفا غنيم

الكاتبة صفا غنيم
الكاتبة صفا غنيم

جلست قرب نافذة القطار المتهالك شاردة عبر النافذة ، أصوات كثيرة متداخلة ، لم يستطع صوت منهم أن ينتزعها من شرودها هذا، غير صوت رجل خمسيني جلس فوق المقعد الواقع أمامها قائلا لمن جلس بجواره:

- منذ وقوع النكسة وكل شئ أصبح مر ، المحصول لم يعد كما كان وكأن الأرض نفسها تئن لما حدث ، أمسك الرجل بلفافة تبغ يشعلها قبل أن يجيبه قائلا:

- ليست الأرض فقط هى من توقفت عن حصاد ثمارها ، لي ولد واحد تزوج قبل النكسة بعام ومر عامين وحتى الأن لم ينجب ، أشعر أن الجميع أقسم ألا يفرح قبل أن تفرح الأرض برجوعها إلينا

تنهدت وهناك صوت يتردد بين جنبات روحها  قائلا:

-إذن النكسة لم تلحق بالأرض فقط ، بل لحقت بحالنا جميعا وكأن هناك شئ يخفي يربط بيننا وبين بعضنا البعض ، عادت من شرودها على صوت نكات وتهكمات ونمنمات تسربت إلي أذنيها ،عادت بعينيها من الطريق الذي كانت تتصفح ملامحه طيلة رحلتها ، وجدته يقف مستند بظهره إلي أحدي المقاعد يكتم غضبه ، فهمت دون سؤال أن ما سمعته من نكات كانت تقصده ، زيه الذي أنباء أنه أحد جنود الجيش ، أكد لها أنهم أخرجوا ما بداخلهم من غضب حينما رأوه ، ظلت ناظرة بوجهه الخمري اللون وعينيه السوداء وشعره البني الناعم وتلك الغمازتين فوق خديه ، شعرت بألمه من خلال صمته ، وقف القطار فجأة ليهتز الجميع ، نهض من كانوا يجلسون أمامها مغادرين  نظر حوله يبحث عن  مقعد  شاغر ليجلس به ، رأها ناظرة إليه ، فهم  أنها تود أن تخبره بأن يجلس ، خطى ناحيتها جالسا أمامها وهو صامت ، تحرك القطار مرة أخري يكمل طريقه ، مرت  دقائق قبل أن تتحدث إليه قائلة كمن يحاول أن يخفف عمن أمامه لحظة حزن يحياها:

- لا عليك هم فقط يحاولون أن ينفثوا عن حزنهم ، لا تحزن وأترك الأمر جانبا ، رفع وجهه إليها وقد ارتسمت على ملامحه أبتسامة هادئة قائلا:

- لست غاضبا منهم أنا حزين من أجلهم ، كم وددت أن تذهب أنفاسي ولا أحيا ما حدث .. لكنها إرادة الله ، سوف نعود لنحارب من جديد وسننتصر ، أبتسمت له قائلة:

- مؤكد سننتصر ونعود نحيا من جديد فرحين برجوع أرضنا ورجوع أرواحنا ، فقط أبتسم

وضع يديه تحت ذقنه قائلا:

-صدقينى أنت النسمة الهادئة التى قابلتها منذ أن تركت مكانى هناك فى سيناء وجئت أقضي يومين أجازة مع أسرتي ، أخبريني ما أسمك؟

أحتضنت كتب كانت تمسك بها قائلة:

- فاطمة اسمى فاطمة  وأنت ما اسمك؟

اتسعت ابتسامته قائلا:

-اسمك هو نفس اسم أمي وكم أحب هذا الاسم ، ألم أقل لك أنك نسمة هادئة ، أما عن اسمي فهو أحمد ، قطع حديثهم أمرآة تحمل طفلها تود الجلوس بجواره ، أفسح لها مكان بجواره لتجلس به، أردف قائلا:

- أين تسكنين ؟ مدت أناملها ترفع خصلة من شعرها قد سقطت على عينيها قائلة:

- أسكن حي الحسين وأنت أين تسكن؟ أتسعت عيناه وهو ينظر خارج النافذة قائلا:

- أسكن حي السيدة زينب ، وكم جئت إلي حي الحسين أصلي بمسجده ، أنني أعشقه كما أعشق السيدة زينب وكل شبرا بمصر ، لاحت نظرة حزن بعينيها قائلة :

- من منا لا يعشقها ..لكن أخبرني هل تؤدى فترة تجنيدك أم أن عملك بالجيش؟ مد يديه يغلق النافذة التى تُسرب البرد إليهما قائلا:

- إنني أؤدي فترة تجنيدى ، أعمل مهندسا مدنيا و أمارس  مهنتي داخل الجيش أيضا ، ابتسمت له قائلة: - يوفقك الله أنت وجميع من معك

ابتسم لها بحب قائلا: -وأنت ماذا تصنعين هنا بالأسماعيلية ؟

مدت إليها يديها بما كانت تمسكه من كتب قائلة: أنني أدرس هناك بكلية الآداب قسم تاريخ. همس بينه وبين نفسه بصوت منخفض قائلا: تاريخ اليوم هو الخامس عشر من شهر يونيو ١٩٧٣ لن أنسي هذا اليوم.

 رفعت حاجب عينيها اليسرى مداعبة إياه قائلة: فيما أنت شارد هكذا أيها البطل ؟

خرجت من بين شفتيه أبتسامة ساخرة قائلا: بطل؟ لست بطل بعد، يصير هذا اللقب صحيح حينما نحارب وننتصر وقتها فقط ستكونين محقة عندما تنادينى بالبطل.

مدت يديها دون إرادة منها تربت كفه الأسمر قائلة ومازالت ابتسامتها مرسومة فوق شفاهها قائلة: سننتصر، غدا سننتصر طبيعة تلك الأرض يقول هذا أنه مهما مر عليها من انهزامات وسقطات حتما سننتصر.

 اكتفي بأن يبتسم لها قائلا: متى تعودين إلى الإسماعيلية ؟

أتسعت عينيها كمن سمع للتو شيئا كان ينتظره قائلة: نهاية الأسبوع تنتهي عطلتي وأعواد وأنت؟

نظر بساعة معصمه قائلا: أنا أيضا سأعود فى نفس موعد عودتك.

 

 علت صافرة القطار يعلن نهاية رحلته ووصوله إلي محطة مصر، وقف من بالعربة يغادرونها وظلوا هم حتى غادر الجميع، نهضا مترجلين.

وقف يشد على كفها قائلا: سأراك نهاية الأسبوع، قلبي يحدثني أنني سأراك مرة أخري.

 تركت يدها بين راحته قائلة: أتمني أن يكتب لنا الله لقاء آخر، أراك بخير.

 

 تركته مغادرة المحطة وقف يتبعها بعينيه وما وصلت إلي نهاية طريقها حتى وقفت تنظر إليه لوحت له بيدها مرسلة ابتسامة تصطحبه، سقط باقى اليوم سريعا وكلا منهم فى بيته وسط أهله .. لكن هناك شئ ما ينقصهم ما هو لا أحد يعرف كانت تلك هي أطول إجازة شعروا بها ، تمنوا أن تمضي سريعا ويتقابلا ثانية، هناك شئ ربط بينهما، شئ لا يعرفان ما هو وإن كان كلاهما يشعر به.

 لملمت "فاطمة" أشيائها ماضية في طريقها إلي جامعتها قبل أن تنتهى فترة إجازتها.

أوقفتها أمها سائلة إياها : -ماذا حدث بنيتي، لم أنت مغادرة اليوم؟ باقي يومين وتنتهى فترة إجازتك.

 توقفت واضعة حقيبة ملابسها بجوارها مجيبة أمها: لا شئ يا أمي هناك بحث هام يجب أن أنهيه وأسلمه لرئيس القسم بالكلية ولا وقت أمامي، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه ، مالت تقبل رأسها ومضت فى طريقها، وصلت إلي محطة القطار وقفت فوق رصيفه، فجأة أعلنت السماء سقوط أمطارها، بحثت عن مكان تحتمى به ، خطت لتجلس على أحدى المقاعد شاردة فى قطرات المطر هامسة لنفسها: كاذبة يا نفسي ، تلك هى المرة الأولى التى تكذبين فيها على أمك ، هل حقا هناك بحث تودين الأنتهاء منه ؟ أم أنك تبحثين هنا عنه ؟ أم أنك أحسست بوحشة غريبة فى غيابه، فجأة رأت خيال يقف أمامها عادت من شرودها تنظر إليه ، لتجده هو بابتسامته الصافية وعينيه الدافئتين يقف أمامها، ابتسمت له دون كلام دون سؤال، ظل كلاهما يحدق بالأخر.

 جلس بجوارها قائلا: لم أتيتِ إلى هنا وقررتِ السفر قبل انتهاء إجازتك؟ 

نظرت إليه قائلة: وأنت ما الذي جعلك تأتي إلى هنا قبل انتهاء إجازتك؟

نظر باتجاه شريط القطار شاردا به قائلا: لا أعرف حقا ، شئ ما جعلني آتي إلي هنا ، شيء أقوى منى جعلني أبحث عنك دون أن أعرف السبب، تلك هى المرة الأولى التي أقطع بها إجازتي وأعود.

 أخذت تعبث بأناملها بما تحمله من كتب دون كلام ، وصوت بداخلها يقول: هل هذا هو الحب الذي قرأت عنه كثيرا فى الروايات، هل من الممكن أن نحب دون تمهيد أو سابق أنذار، يا الله ما هذا الذى يخترق روحي دون تمهيد، لم هو بالذات، ما سبب تلك السكينة التي أحسها بجواره.

 

 وصل القطار الذي سيقلهم إلي وجهتهم ، نهضا معا ، جلسا بجوار بعضهما البعض، شق القطار طريقه، حاول أن يبدأ الحديث قائلا: فاطمة هل لي بسؤال؟

بتردد جاوبته قائلة : تفضل، أخذ نفس عميق قائلا: سوف أروي لك شئ وعليك أن تسميه لي بأسم محدد، منذ أن تركتك وأنا أشعر أن هناك شئ ما ينقصني، شئ انتزع منى وبدونه تائه ضل طريق عودته، نعم لا أعرفك عن قرب ولم يدم حديثنا طويلا ولم أرك إلا مرة واحدة ..

 لكن سبحان مؤلف القلوب، تلك هى المرة الأولى التي أعرف أن هناك من نقابلهم ساعات ويصيرون كل شئ بالنسبة لنا، أخبريني ماذا تسمي ما حدث؟

أحمرت وجنتيها خجلا، حاولت أن تجمع الحروف والكلمات قائلة: صدقنى أن قلت لك أنه نفس الشئ بالنسبة لي.

 ضحك عائدا برأسه للخلف قائلا: إذن هذا هو القدر الذى لا نملك حياله شئ ، قد جمعنا الله دون موعد وكأننا نصفين نبحث عن بعضنا البعض، فاطمة لا أعرف ماذا سيحدث فى عودتى تلك ..لكن أعاهدك والله شاهد عليٓ أن عدت بخير لن أعود إلا وأسمك معقود باسمي.

 

 نظرت إليه بعينين يفيضان شوق وحب وخوف، مسح على كفها قائلا: لا تخافى أدعي من جمعنا أن أعود إليك سالم مرة أخرى، وصل القطار نهاية رحلته ترجلا من القطار ويديهم متشابكتين، سارا سويا حتى وصلت إلي كليتها وقف يودعها ووجه يفيض بشرا قائلا:

انتبهي لحالك جيدا ، انتظرينى مهما تأخرت سأعود إليك.

 شدت على كفه كطفل صغير لا يريد أن يترك أمه قائلة: ستعود أعلم أن الله لن يرضيه أن يجرح روحي، تركها ماضيا فى طريقه.

ظلت واقفة تتبعه بنظرها حتى اختفى، قربت كفها من أنفها تستنشق ريحه هامسة: اللهم  احفظه كما حفظت سيدنا موسى لأمه، مرت الأيام سريعا وعادت إلي محطة القطار تنتظره .. لكنه لم يأت، اعتصر قلبها خوف عليه، جلست على رصيف المحطة تنظر بوجوه العابرين تبحث عنه وسطهم لكن دون جدوى، سمعت بعض الأحاديث التي تموج بها المحطة تقول: أن هناك طوارئ بالجيش وهناك أحاديث عن قيام حرب، وضعت كفها فوق قلبها كمن يخاف أن يترك ضلوعه ويخرج قائلة بصمت:

-كن معهم يا الله واكتب لهم النصر، مرت الشهور ولم تره ولم تعرف عنه أي شئ ، جاء شهر رمضان الكريم كان هو دعوتها التى لا تنساها كل يوم، علا صوت المذياع فجأة يعلن أن جنودنا عبروا القناة ورفعوا علم مصر، بكت وضحكت فى آن واحد بكت فرحا وخوفا عليه، ضحكت فرحة بالنصر.

 مرت الأيام والجميع يتابع ويدعوا الله أن تعود الأرض وهي تدعوا معهم أن يعود أليها الغائب بخير ، انتهت الحرب ومرت الأيام ثقيلة عليها، لم يعد ولم تعرف عنه شئ، بحثت عنه فى جميع المستشفيات، سألت عنه كل من رأته عائدا من الحرب لكن لا جديد ، لا جديد يخبرها أنه بخير ، جاء الشتاء من جديد .. لكنه جاء أكثر برودة وصقيع لأنه جاء خاليا منه، جلست بنفس المكان الذي جلسوا به سويا من قبل، لم تعد ترغب فى فعل أي شئ، جلست شاردة بعيد، فجأة رأت شخص يشبهه من بعيد، تعلقت عينيها به لكنها سرعان ما عادت بهما إلي الأرض إنه شخص كفيف.

 مرت لحظات وسمعت صوت دقات عصاه التي يتكئ عليها تقترب منها ، لم ترفع رأسها إليه لم تنظر باتجاهه، جلس بجوارها، مرت دقائق تسرب عطره إليها، عقدت حاجبيها استدارت تنظر إليه، شهقت فجأة، نزلت دموعها دفعة واحدة، فشلت أن تنطق بكلمة أو توقف سيل دموعها ، أنه هو أنه "أحمد " .. لكنه كفيف ، كيف حدث هذا، متى حدث ؟ لهذا غبت عني طيلة هذه الشهور، أمسكت بكفه، انتبه فجأة ، سمع صوتها يئن وهو يناديه، علم أنها هى، انتفض واقفا يحاول أن يغادر المكان.

 أمسكت بذراعه تستوقفه قائلة: أحمد اشتقت إليك كثيرا الآن فقط عادت روحي، حاول أن يتركها ويمضى لكنها تشبثت به متوسلة إليه آلا يغادر قائلة: لم تفعل هذا ؟ ما سبب ابتعادك عنى؟ انتظرتك وبحثت عنك طويلا.

 خرج صوته  حزين قائلا: ابتعدت عنك لأنك تستحقين من هو أفضل مني، كيف ستحيين مع إنسان فقد بصره فى حرب، أنا أحبك لهذا فضلت أن أبتعد كى تعيشتي حياتك مع من هو أفضل منى.

ضمته إلي صدرها، اعتصرته بين ضلوعها، هو الأخر أطبق ذراعيه عليها، تنفسا بعمق كمن وجد واحة سلام عاش بها.

 همست له قائلة: أنا عيناك وبصرك، أنا عصاك اتكأ علىّ ولن أدعك ترحل مهما فعلت، أنا معك مهما حدث، حينما أحببتك لم أحب بك جسد رجل ولا عطر رجل بل أحببت روحك، أمسكت العصا التي يتكأ عليها ملقية بها بعيد، واضعة كفها بكفه ممسكة به قائلة: هيا نكمل طريقنا معا، تمسك بيدى جيدا سوف نكمل ما بدأناه سويا إن فقدت كل ما لديك لن تفقدني وسيبقى الحب دوما رأس مالنا .