«يوميات قاض 18».. قصة قصيرة للكاتب المستشار بهاء المري

الكاتب المستشار بهاء المري
الكاتب المستشار بهاء المري

حياة وأكل عيش

وجدَتْ في تطليقها ومعها طفلة لم تبلغ الخامسة عشر من عمرها صيدًا ثمينًا، أغرَتها بسهولةِ الأمر كأقصر طريق لكي تَعيش، لم تُقاوم الإغراء، اختارت ألاَّ تَعيش حُرَّة وأن تأكل بثدييها، وانخرَطَتْ في الرَّذيلة تحت إدارتها لقاء مال.

عدَّة سنوات واتَّخذَت لها مكانًا تُديره بنفسها، فقد عرفت قواعد اللعبة، وصار لها زبائن.

تُداهم الشرطة المكان، تُقتاد في ملابس فَضفاضة ونقاب يُظهر بالكاد عينيها، عَلَّلت ذلك بالتَّخفي من مَعارفها.

طفلةٌ لم تبلغ الخامسة عشرة من عُمرها تقف إلى جوارها بين الساقطات الأخريات الأربعة، تبدو براءة الطفولة جَليَّة على ملامحها، ولولا جسدها الفائر وشهادة الميلاد لظنَّ مَن يبصرها أنها تجاوزت هذه السن بعشر سنين.            

لم تَأبه المعلمة لطفولتها، جرَفَتْها معها إلى هذا المُستنقع وقدَّمتها لمن يدفع من الذئاب البشرية ليَنهش لحمها.

ولم تكشف الأوراق عن علاقة هذه الطفلة بالمعلمة، نظرها القاضي نظرة حزنٍ في صمتٍ، واختلجَت في صدره أحاسيس مُتباينة، تُرى ما الذي دفع بطفلةٍ كهذه لتسلُكَ هذا الطريق؟ وأيُّ أسباب تلك التي نحَتْ بها إلى هَجْر دراستها لتسلكه؟ هل تُدركُ حقيقة ما تَصنع؟ وهل تصنعه راضية أم مُجبَرة أم مُضطَّرة؟ أم أنها استَمْرَأتهُ كمُتعة، وجعَلت من الظروف شماعة تُعلِّق عليها أسباب سقوطها؟ أم أنها تراه مُجرد عملٍ؟ وهل، وهل؟

وجدَ نفسه مُنساقًا وراء فُضول مِهني للغَوص في أعماقها، الدفاع الحاضر معها وافق على مناقشتها، سألها برفق بعد أن اعتَرفَتْ: 

- لِمَ هذا الطريق؟

أجابت بتلقائية:

- أكل عيشنا.

-هل لكِ أب؟

- والدِى طلَّق أمي وأنا صغيرة، وأعيش معها ولا نراه.

- هل هي مريضة ولجأتِ إلى هذا لتُنفقي عليكما؟

قالت وهي تشير إلى مديرة الوكر:

-لا، أمي هذه، ولديها مال كثير ولا تحرمني من شيء.

يرمقهما القاضي بنظرة تعجب، ويتحوَّل بحديثه إلى مديرة الوكر:

- وما حكايتك؟

- كنتُ خادمة عند سيدة غنية، وكان زوجي جنايني حديقة فيلتها، وذات يوم شَعرتُ بإرهاق شديد فلم أذهب إلى العمل، وفى نهاية اليوم تحسَّنَتْ حالتي فذهبتُ، معي مفتاح باب الحديقة، وكان باب الفيلا المطل عليها مفتوحا، توجَّهتُ كعادتي إلى غرفة نومها، وما أن اقتربْتُ من الغرفة حتى سمعتُ همهمات غريبة وصوت رجل معها، استطعتُ تمييز الصوت، كان صوت زوجي، لم أحتمل ما سمعت من عبارات ...!

دفعْتُ باب الغرفة ودخلتُ،لم أدر ما الذي أقوم بفعله، تَسمَّرَت قدماي وانعقَدَ لساني، وجدته بين أحضانها عاريين كما وُلِدا، صرَخْت، قام وكَمَّ فاهي وضربني ضربًا مُبرِّحًا ودفعني دفعًا خارج الفيلاَّ، عُدت إلى بيتي لست أدرى كيف أبصرتُ الطريق حتى عُدت، لم يستح، راح يُعنِّفني بشدة، ويُحمِّلني وزر قطع عيشنا لديها، ثرتُ فيه ثورة عارمة، طلقني بعدها.

رُحتُ أبحث عن عمل ليَسُدَّ رمَقي أنا وطفلتي من دون جدوى حتى قابلتُ صديقتي، أقنعَتني بسهولة عملها وكم يُدرُّ دخلا وفيرًا، لم أناقشها، كنتُ في قرارة نفسي أتمنى لو ألقيتُ بنفسي بين أحضان أي رجل يُقابلني ليفعل بي مثلُ ما كان يفعل بها، ولما كبرَتْ ابنتي ضمَمتُها إلى فريق العمل، في البدء كانت ترفض، قصَصْتُ لها قصة والدها مع صاحبة الفيلاَّ وما صار إليه حالنا بعدها.

زوجي أكلَ من جسده، والسيدة تدفع راتبه لتنفق على جسدها، بضاعة سهلة ورائجة، فلِمَ أتكبد عناء البحث عن عمل، ومَن كان سيطعمنا حتى أعثر على عمل، لماذا لا أستعمل جسدي مثله، طالبوا المتعة يَسعون إلينا ويدفعون بسخاء.

يقاطعها القاضي:

- حتى ابنتك؟!

- ولم لا؟ الكل خائنون، فلتأكل كما يأكل والدها وأمها، صارت هذه مهنتنا، أم تنتظر زوجًا ليَخونها هي الأخرى.

ينهي القاضي جدلَ منطقها المقلوب، يرفع يده في مواجهتها بما يعنى كفَى،يرفع الجلسة للمداولة.