بروفايل .. سيد درويش مبدع السلام الوطنى

سيد درويش
سيد درويش

محمد‭ ‬كمال‭ ‬

فنان الشعب”، لقب لم يأتي من فراغ، بل كان وصفا دقيقا لواحد من أهم الموسيقيين في تاريخ مصر والوطن العربي، والذي قيل عنه أيضا أنه “المجدد” صاحب النهضة الموسيقية الذي كان له الفضل في تحويل الأغنية من شكلها وطريقها الطربي إلى كلمات تتطرق للقضايا الاجتماعية التي ترتبط بالمجتمع أو العبارات الوطنية القوية المحفزة، والتي جعلت الشعب ينتفد في مواجهة النظام الملكي أو الاحتلال الإنجيلزي، لقد كان هدف الموسيقى المصرية قبل سيد درويش الطرب فقط، لكنه جعل منها رسالة أكبر، وهي استخدام هذا الفن في الجهاد الوطني والإصلاح الاجتماعي، تعتبر ألحانه وأغنياته ركيزة أساسية للتراث المصري، وهو صاحب الفضل في تلحين السلام الوطني المصري.. أنه سيد درويش الذي تحل بعد أيام قليلة ذكرى مرور 100 عام على رحيله الذي كان في 10 سبتمبر 1923.

ولد سيد درويش البحر بالإسكندرية في 17 مارس 1892 لأسرة متوسطة الحال، وألتحق وهو في الخامسة من عمره بأحد الكتاتيب ليتلقى العلم ويحفظ القرآن، وبعد وفاة والده - وهو في السابعة من عمره - قامت والدته بإلحاقه بأحد المدارس، وهنا بدأت تتضح موهبة درويش الفنية من خلال مدرسته وحصة الموسيقى بالأخص، وتعلق بالموسيقى منذ صغره، وبدأ ينشد مع أصدقائه أغنيات وألحان الشيخ سلامة حجازي والشيخ حسن الأزهري، ثم ألتحق بالمعهد الديني بالإسكندرية عام 1905، وفي تلك الفترة بدأ يعمل في الغناء في المقاهي وبالتوازي كان اتجهه للعمل كعامل بناء.

وفي إحدى جولاته الغنائية المتواضعة، وعن طريق الصدفة، حضر ذات مرة الشقيقان أمين وسليم عطا الله، وكانا وقتها من أكثر المنتجين المحبين للفن والغناء، وقررا أن يصحباه برفقتهما في رحلتهما الفنية إلى الشام عام 1908 لتقديم أغنياته هناك، وفي الشام تعرف سيد على الشاعر الملا عثمان الموصلي، الذي إعجب بموهبة درويش الفنية الكبيرة، وقرر أن يرعاه فنيا، فحفظه التواشيح وقام بتعليمه التطور الموسيقي الجديد وجعله يتقن العزف على العود وعلمه كتابة النوتة الموسيقية، ومن أشهر وأهم الأغنيات التي لحنها هناك وحققت شهرة واسعة كانت “يا فؤادي ليه بتعشق”.

عاد سيد إلى القاهرة مرة أخرى عام 1912 وبزغ نجمه وقتها بعد التجربة الثرية التي قام بها في الشام وجولاته هناك، وقام سيد بالتلحين لكافة الفرق المسرحية المشهورة في شارع عماد الدين خلال تلك الفترة أمثال فرقة “نجيب الريحاني، جورج أبيض، علي الكسار”، ثم شكل مع المؤلف بديع خيري ثنائي كان نتاجه عدد من الأغنيات التي شكلت التراث المصري حتى يومنا هذا من خلال تقديم أغنيات مثل “شهرزاد والبروكة، سالمة يا سلامة، زوروني کل سنة مرة، أوبريت العشرة الطيبة”، الذي أدخل من خلاله سيد أسلوب الغناء البوليفوني في مصر لأول مرة.

اشتهر اسم سيد وذاعت أغانيه حتى وصل إلى مسمع رائد المسرح الغنائي المصري سلامة حجازي، الذي حرص على زيارته في الإسكندرية والاستماع إليه شخصيا عام 1914، وأبدى إعجابه بأسلوب سيد في التلحين وتنبأ له بمستقبل كبير ثم عرض عليه الانتقال إلى العاصمة القاهرة للعمل معه، وترك الإسكندرية واتجهه للقاهرة واستمع جمهور القاهرة له لأول مرة مطربا بين الفصول المسرحية، لكن الجمهور الذي تعود على صوت حجازي استقبله بشكل فاتر، مما جعل الشيخ سلامة يخاطب الجمهور دفاعا عنه قائلا: “هذا الفنان عبقري المستقبل”، لكن الشيخ سيد يقرر أن ينهي المهمة ويعود إلى مدينته في اليوم التالي.

عام 1917 يعود حجازي إلى سيد درويش بعرض أقوى، حيث طلب منه تلحين رواية كاملة لفرقة جورج أبيض بعنوان “فيروز شاه”، وعنها انتبه الجمهور، وكذلك الفرق الأخرى، إلى أن فنّاً جديدا قد أتى، وأن الألحان أثمن من الرواية نفسها، وحرصت معظم الفرق على إجتذاب سيد لتلحين رواياتها، ثم أصبح في سنوات معدودة الملحن الأول في مصر، متفوقا بذلك على الملحنين المخضرمين أمثال كامل الخلعي وداود حسني.

أول حفلة أقامها سيد درويش في القاهرة كانت في مقهى “الكونكورديا”، وحضر هذه الحفلة العديد من الممثلين والمطربين “مثل إلياس” نشاطي وإبراهيم سهالون الكمانجي وجميل عويس، حتى تخطى حضور الفنانين عدد الجمهور العادي، وفي هذه الحفلة قدم سيد دوره الشهير الذي أعده خصيصا لهذه الحفلة، والذي حمل اسم “الحبيب للهجر مايل”، وهذا الدور كان من مقام “السازكار”، وهو من المقامات التي لم تكن مستخدمة في ذلك التوقيت، وتواجده كان نادرا، ووجد الحضور أن سيد خرج عن الطريقة القديمة المألوفة في تلحين الأدوار من ناحية “الآهات” التي ترددها الجوقة، وكانت غريبة على السمع المألوف، لذا أنسحب أكثر الحاضرين لأنهم أعتقدوا أن هذه الموسيقى “كافرة” و”أجنبية”، وأن خطر الفن الجديد أخذ يهدد الفن العربي الأصيل، لكن بعض الفنانين المستمعين لم ينسحبوا لأنهم أدركوا عظمة الفن الجديد الذي أعده سيد لمستقبل الغناء العربي، لكن بمرور الوقت تحول سيد من مجرد مطرب صاعد ذاع صيته لدى النخبة الثقافية إلى أحد أهم فناني الشعب والأكثر تعبيرا عنهم.

تنوعت ألحان سيد درويش وأختلفت مقاماتها وقوالبها، وقد كان هذا سبب تميزه وتفرده، ويعد درويش من أوائل الفنانين الذين ربطوا الفن بالسياسة والحياة الاجتماعية، فنجده غنى في مناسبات عديدة مثل أغنية “قوم يا مصري” التي غناها أثناء ثورة 1919، أيضا نشيد “بلادي بلادي” الذي اقتبس فيه بعضا من كلمات الزعيم الراحل مصطفى كامل، وأغنية “الحلوة دي” التي غناها تضامنا مع الحرفيين والفئات العاملة بالمجتمع، فقد كان هدف الموسيقى المصرية قبل درويش الطرب فقط، لكن سيد جعل منها مهنة أكبر وأهم، فقد استخدمها في الجهاد الوطني والإصلاح الاجتماعي، وقدم قدم سيد خلال مسيرته القصيرة ما يقرب من 40 موشحا مثل “يا شادي الألحان، العذارى المائسات، كلما رمت إرتشافاً” في مقام “الرسات”، “يا غصين البان حرت في أمري، سل فينا اللحظ هنديا، نما دمعي من عيوني ونم” في مقام “الحجاز”، وأيضا قدم ما يقرب من 100 “طقطوقة” و30 رواية مسرحية.

توفى سيد درويش في 10 سبتمبر عام 1923 عن عمر 31 عاما، وهناك روايات كثيرة عن سبب وفاته، ومنها أنه توفى بسبب جرعة زائدة من المخدرات، لكن أحفاده خرجوا ونفوا تلك الرواية، مستندين على خطاب بخط يده يقول فيه لصديقه أنه أقلع عن السهر وكل ما يصاحبه، وينصح صديقه بالتخلي عنهم، وأستندوا فيها أيضا على ما تم ذكره في مذكرات بديع خيري أن سيد درويش أقلع عن المخدرات، ويظهر ذلك جليا في أغانيه التي تنصح الشعب بالإبتعاد عن المخدرات، أما الرواية المؤكدة بالأدلة أن سبب الوفاة هو تسمم مدبر من الإنجليز أو الملك فؤاد بسبب أغاني سيد التي تحث الشعب على الثورة.

يعد سيد من أكثر الموسيقيين الذين استخدمت موسيقاه بعد وفاته وأيضا أغنياته التي استعان بها العديد من المخرجين في أعمالهم، ومن أشهرهم المخرج حسن الإمام في أفلام “بين القصرين، شفيقة القبطية، إضراب الشحاتين، بديعة مصابني، أميرة حبي أنا”، واستعانة الإمام بأغنية “التحجفجية” في فيلم “إمتثال”، وأيضا تجربة حفيده إيمان البحر درويش الذي قام بإعادة إحياء وتوزيع العديد من الأغنيات الخاصة بجده، واستخدم بعضها في أعماله السينمائية مثل “محسبكوا إنداس، دنجي، الصحبجية، طلعت يا محلا نورها”.

 كما قدمت شخصية سيد درويش في العديد من الأعمال الدرامية، في مقدمتها مسرحية “سيد درويش” عام 1965 التي قام ببطولتها محمد نوح وأخرجها محمد توفيق، وفيلم “سيد درويش” الذي قام ببطولته كرم مطاوع عام 1966 للمخرج أحمد بدرخان، ومسلسل “أهل الهوى” للمخرج عمر عبد العزيز الذي شارك في بطولته الحفيد إيمان البحر درويش عام 2013، ومسلسل “أهو ده اللي صار” للمخرج السوري حاتم علي عام 2019، ومسلسل “الضاحك الباكي” للمخرج محمد فاضل عام 2022.

اقرأ أيضًا : خلافات في حياة «إيمان البحر درويش»..أبرزها مصطفى كامل وهاني شاكر


 

;