«الغريب والصياد» قصة قصيرة للكاتبة رانية المهدي

صورة موضوعية
صورة موضوعية

عندما يدق جرس الانصراف تنطلق الصرخات المدوية، بعضها لمجرد انتهاء اليوم الدراسي الممل في معظمه، والبعض الآخر لوجود تلك الخطط المضحكة والمخجلة في كثير من الأحيان.

مثل خطة ولاء للذهاب للكوافير لترسم حاجبيها، وتتخلص من هذه المزارع الوارفة التي تكسو جبهتها، وتحجب عنها الرؤية ثم تتسلح بالبكاء والمسكنة لمواجهة والدتها التي ستصرخ فيها حتما حتى صباح اليوم التالي، فهي ترى أن الفتاة لا يجب أن تفعل ذلك قبل الزواج، مسكينة ولاء عليها أن تواجه كل هذا اللوم والتعنيف كل مرة.

 

أو بعض الخطط الغرامية مثل خطة مروة التي تركت الحصة الأخيرة، واستقرت في الحمام لتضع المساحيق والألوان على وجهها؛ لتُظهر نفسها أكثر بياضًا مما هي عليه، على أمل أن يتحدث معها ذلك الشاب الضخم الذي تقابله في إحدى الحدائق عن جمالها وفتنتها، ولا يقتصر الحديث عن الطعام الذي تحمله إليه كل مرة، أو على الأقل يمدحها بعد الانتهاء منه.

 

مروة لا تقلق من الوقت أو أي شيء؛ فدائمًا أمها لا تعود من العمل إلا متأخرًا.

الكثير والكثير من الخطط والحكايات، أما أنا فلا أفكر إلا في تلك اللحظة التي أصل فيها للمنزل؛ فاليوم سيعود أبي من رحلة الصيد، وكم أنا مشتاقة له ولحكاياته المثيرة عن أنواع الأسماك، وأدوات وطرق الصيد المتعددة، وتأكيده الدائم على أهمية الصبر واختيار الطُّعم المناسب والطريقة الملائمة لكل سمكة، أبي صياد ماهر يفوز دائمًا على كل أصدقائه لأنه يستحق.

 

دق الجرس، وقبل أن تنتظم الكتب في الحقائب يندفع الجميع في تيار هادر لنختصر درجات السُلم، ونتجاوز الفناء ونلتقي جميعًا عند البوابة وتخرج بقوة الدفع كما تقول سهام؛ فهي متخصصة في إلقاء النكات المضحكة وللحق تتمتع بخفة دمٍ لا تقاوم، فقد شاركت في نشاط المسرح المدرسي بعد أن اختارها الأستاذ راضي لدور البهلوان، وأكد أنها ستكون قنبلة العرض.

سهام تحلم دائمًا أن تصبح مثل شويكار، وتتمنى أن تمثل دورها في مسرحية سيدتي الجميلة.

أما عني فأتنحى إلى جانب البوابة دائمًا وانتظر حتى خروج الجميع؛ فأنا لا أحب الزحام، وأتهادى في مشيتي، واحتضن الحقيبة وأضمها إلى صدري لأجد زميلاتي بالخارج في انتظاري يصرخون كالمعتاد:

- البرنسيسة وصلت، ما لسه بدري يا هانم

 

هكذا كانت كلماتهم دائمًا، ثم يقدمن لي بعض الحلوى التي خبأتها سهى في الحقيبة صباحًا من محل والدتها، نمشي ونتضاحك وتدفع كل منا الأخرى لتسبقها ونقلد مَن يغدو ومَن يروح، وإذا نظر إلينا أحدهم نخرج ألسنتنا وننطلق لنسابق الريح حتى نصل للمترو، نستقل عربة السيدات وقد سبقتنا الضحكات العالية التي تصل للصراخ، لتستقبلنا تلك النظرات التي تقول الكثير بلا صوت.

هذه تبتسم وتستعيد ذكرى أيام متشابهة عاشتها، وتلك التي تتمنى أن تترك كل أحمالها وتأتي وتعبث معنا، والأخرى التي ترانا مستهترات لا ندرك ما نحن مقبلات عليه من أيامٍ صعاب.

 

وهنا تنظر سهام للعربة الأخرى المختلطة لنجدها تبتسم وتتمايل؛ فننظر جميعًا مكان عينيها لنراه هناك في ملابسه التي تعلن بقوة أنه ريفي بسيط، وأنه أول مرة يرى هذه الحياة المدنية الصاخبة، ذكرتني ملامحه بأحمد زكي في فيلم البرئ، نظرت إليه لأجده جالسًا في سكونِ يخبئ خلفه الكثير من التيه والقلق والانبهار.

 

علمت ما سيحدث عندما استدارت لنا سهام بضحكتها المعهودة التي يملؤها التحدي، لتأخذ الموافقة من الجميع وننطلق جميعًا عندما يتوقف المترو، ونترك عربة السيدات ونصعد للعربة الأخرى ليبدأ التحدي؛ مَن منا ستجعله يقف ويجلسها مكانه في هذا الزحام الرهيب؟

وبالفعل هرولنا جميعًا للعربة الأخرى بنفس الضجة، وتزاحمنا حتى وقفنا أمامه مباشرةً، هذا الصيد الثمين الذي نظر إلينا وعيناه تتسع بقوة وهو يحاول أن يكتم تلك الابتسامة الخجلى على شفتيه، ليخفي انبهاره بهذا السيل الأنثوي المندفع ناحيته بلا رحمة.

لم تتعود صديقاتي أن يضعن خطةً، ولكن أنا أحب الخطط، نظرت إليه دون أن يلاحظ وأخذت أحسب الحسابات.

هل ستفوز صفاء؟ صاحبة الضفائر الذهبية اللامعة التي تخطف الأبصار، تلك البيضاء حمراء الخد ممتلئة القوام بشكل أنثوي جذاب، ها هي تستخدم أسلحتها على أكمل وجه؛ ترفع ضحكتها لتلمس ضفيرتها بعضًا من خده، ثم تبتعد وتتمايل من جديد.

 

أم يقوم ويجلس سهام التي تلقي النكات المضحكة؛ فتنتزع منه الابتسامة رغمًا عنه؟

لكل منهن أشياء تقدمها لكن أنا ماذا لديَّ؟ كيف أتعامل مع هذا الساذج المنبهر؟ ما هو شعاع الضوء الذي يجذبه ويسيطر على عقله، ويجعله يسير في الاتجاه الذي أريده؟ عندها انقض عليه وأسيطر على كل ذرةٍ في كيانه؛ فينتفض من مكانه ويجلسني دون أن يفكر.

 

حسبت حساباتي ووجدتها سريعًا؛ لأنه صيد سهل جائع سيلتقط الطُّعم المناسب بلا مجهود، المهم يكون الطُّعم مناسب ليلتقطه دون الالتفات إلى غيره من المغريات؛ لذلك بدأت في التنفيذ الفوري فعامل الوقت مهم وخطير في هذه الخطة.

 

تنحيت جانبًا ليس ببعيدٍ عن نظرة وأذنيه، وأخرجت كتاب الأدعية الصغير وفتحته، وأخذت أقرأ وأرسل بين الحين والآخرنظرات عتابٍ وعدم رضا عما تفعله صديقاتي، ومع اقتراب توقف المترو في المحطة، وعندما يهدأ الصوت أميل عليهن وأهمس له معهن:

 

- على فكرة عيب أوي كده، بطلوا ضحك على الفاضية والمليانة، ووطوا صوتكم احنا بنات محترمة.

ليهتز المترو في نفس الوقت كما تم الحساب في الخطة؛ فأميل مع حركته وكأنها ميلة طبيعية، فأكاد أسقط عليه ليلتقطني، فألقي سهمي الأخير وأنظر في عينيه ببراءةٍ وشكرٍ مع إظهار الكثير من الحياء والخجل الشديد؛ هنا تتم المهمة بنجاح ويبتلع الطُّعم فأصبح المسيطرة الوحيدة على عقله؛ فأهمس له بصوتٍ رقيقٍ منكسر:

-أنا أسفة، مكنتش أقصد.

لتنهار كل دفاعاته وتحسم حيرته بيننا؛ فيقف مشدود الظهر مرفوع الرأس، ويقول في شهامة زائدة:

- اتفضلي يا آنسة، اقعدي ارتاحي.

لأرد عليه وأنا أنظر للأرض:

- شكرًا جدًا.

وأجلس مكانه وأنا أكتم نظرة الانتصار ولذة الفوز، هنا تنقطع ضحكات البنات وتتحول وجوههن إلى عبوس وهزيمة، وأنا اعتدل في جلستي القصيرة التي أنهض منها مسرعةً عندما يتوقف المترو ويفتح الباب لننزل جميعًا بعد أن أُجلس مكاني

 

شخصًا آخر غيره طبعًا، فاختار ذلك الرجل الضخم المتجهم الذي كان يتابع، والذي أخذ يرسل نظرات اللوم وبعض كلمات الشماتة، ليضحك الجميع على هذا المسكين الساذج الذي ظل واقفًا وهو ينظر إلينا من الشباك في تعجبٍ وعدم فهم، ولديه الكثير من الأسئلة التي تطل من عينيه.

أما نحن فنطلق الضحكات وصيحات الانتصار لتقول له سهام من الشباك:

- تعيش وتاخد غيرها يا خفيف.

يتحرك المترو ونحن نسمع ضحكات ولعنات الركاب على تلك الأفعال الشيطانية، لتكمل سهام:

- شكلنا كده مش هنكسب أبدًا، أنتِ بتعملي لهم إيه بس؟! يلا حلال عليكِ الشيكولاتة، بس المرة الجاية هركز معاك أوي.

لأبتسم لهن وأخرج طرف لساني، وتنطلق الضحكات العالية مرة أخرى، ونكمل السير في ضوضاءٍ لن تنتهي أبدًا.