«300 ألف عام من الخوف»| مراسلات أدبية تحكي قصة البشرية

جانب من ندوة صالون الثقافة العربى بحضور المؤلف
جانب من ندوة صالون الثقافة العربى بحضور المؤلف

■ كتب: حسن حافظ

كيف خرج الإنسان الأول من ظلام الكهوف إلى التفكير فى غزو الفضاء؟ ما قصة تطور تاريخ البشرية منذ آلاف السنين وصولا للفصل الذى نعيشه اليوم؟ من أين تبدأ قصة البشرية على الأرض؟ ولماذا صارت على هذا الدرب دون غيره؟ والسؤال الأهم كيف نروي قصة البشرية بكل تعقيداتها؟ الإجابة فى كتاب «300 ألف عام من الخوف»، للمستشار جمال أبوالحسن، الذى يعد القارئ بتجربة قراءة دسمة تسبر أغوار النفس البشرية مستخدمًا تقنيات التاريخ الكبير الذى يمزج بين تاريخ العلوم وتاريخ الإنسان بالفلسفات والنظريات المختلفة لينتج فى النهاية قطعة أدبية علمية جيدة.

■ المستشار جمال أبوالحسن

◄ المؤلف يبحث عن تيمة مختلفة لاستكمال القصة الإنسانية

الاحتفاء النقدى والاستقبال الحافل للكتاب أمور مستحقة لكتاب يحفر مسارا جديدا فى الكتابة العربية، إذ تعد الكتابات ذات الطابع العلمى الممزوج بحرفة الكتابة من الأمور النادرة فى العربية، على الرغم من أن الثقافات العالمية الأخرى لديها باع طويل فى مجال تبسيط العلوم، وهو فن أدبى علمى على درجة كبيرة من الاحترافية والاحترام، لكنه لا يحظى عندنا فى مصر بالاهتمام الكافي، لذا كان الاحتفاء، الذى تجلى فى جلسة الصالون الثقافى العربى التى عقدت بالمجلس الأعلى للثقافة مؤخرا، لمناقشة الكتاب بحضور المؤلف وعدد من كبار المثقفين والدبلوماسيين، يتقدمهم السفير أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، والدكتور مصطفى الفقي، رئيس مكتبة الإسكندرية السابق، وعبر الحضور عن إعجابهم بالكتاب كتابة وفكرة.

◄ أبو الحسن: حديث لنجيب محفوظ شكل منعطفًا فى حياتى وقاد لفكرة الكتاب

◄ الرحلة
الكتاب رحلة فى تاريخ الإنسانية، يصحبنا فيها المؤلف جمال أبو الحسن، تعتمد تقنية الرسائل المتبادلة مع ابنته ليلى فى زمن كورونا والحظر المنزلى المفروض على الجميع، فى لحظة خوف معاصرة عاشتها البشرية،  لينطلق المؤلف فى رحلة عكسية تسافر عبر الزمان مصطحبًا معه القارئ الذي يشعر بحميمية النص المعتمد على رسائل والد وابنته، رحلة يستعرض من خلالها المؤلف بداية الكون والانفجار العظيم، وتشكُّل المادة وكيفية تكون المجتمعات وعامل الفناء الكامن فى الأشياء، وكيفية مواجهته إنسانياً عبر تكوين المجتمعات الزراعية والمدن والإمبراطوريات، حيث تفني الكائنات الضخمة كما الديناصورات بسبب احـتياجها الكبير للطاقة، وهو نفس مصير الإمبراطوريات التى تحتاج إلى موارد هائلة، ستلتقى خلال الكتاب بأبطال من طراز مختلف، أمثال الفيروس والإنتروبيا (القصور الحراري)، هنا نكتشف أن القوانين التى تحكم الفيروس والنجوم العملاقة هى نفسها التى تحكم حياة البشر والمجتمعات البشرية فالبحث عن الطاقة دوما كان هو المفتاح، لذا ينتهى الكتاب بأسئلة كبيرة عن مستقبل البشرية وهل تستطيع أن تنتج أفكارًا جديدة أم تنتهى الهيمنة البشرية مع صعود الذكاء الاصطناعي؟ يترك المؤلف القارئ فى نهاية الرحلة المدهشة وهو مزود بالكثير من الأسئلة والرغبة الهائلة فى التفكير وإعادة النظر فى تاريخ البشر وحاضرهم ومستقبلهم.

◄ اقرأ أيضًا | سبب موجة الحر الشديدة.. هل جربتم شعور آخر ديناصور على وجه الأرض؟

◄ البداية
الكتاب يمثل لأبو الحسن فكرة قديمة نضجت على مهل، إذ يقول لـ آخرساعة»: «جاءت فكرة الكتاب منذ فترة طويلة، تعود بجذورها عندما كنت فى المرحلة الثانوية تقريبا، وذلك عند سماعى لبرنامج (زيارة لمكتبة فلان)، وكان الضيف هو الأديب نجيب محفوظ، وكان يتحدث عن تكوينه والكتب التى يفضلها، وأثار دهشتى وهو الروائى الكبير عندما قال إنه يفضل الكتب العلمية والكتب التى تروى تاريخ الفلسفة بشكل مجمع، وذكر أنه يفضل الكتب التى تحكى تاريخ العالم كتاريخ أسرة واحدة، وأشار لأمثلة من هذه الكتب مثل قصة الحضارة لول ديورانت، وموجز تاريخ العالم لـ هـ.ج. ويلز. وشكّل سماعى لحديث محفوظ منعطفا فى حياتي، إذ بدأت فكرة تاريخ البشرية تستهويني، والتى تطورت مع الوقت إلى التفكير فى إنتاج كتاب شبيه، ولكن بشكل مختلف ومعاصر، ومع الوقت شدنى منهج التاريخ الكبير (Big History)، وتابعت بعض الكتب التى اتبعت هذا المنهج، ولاحظت أنه إذا كان من يستخدم هذا المنهج هو فى الأصل كاتب جيد فإنه يستطيع خلق إطار عام لفهم الظاهرة الإنسانية والإجابة على الأسئلة الكبرى، من نوعية: من أين جئنا؟ وكيف وصلنا إلى هنا اليوم؟ لماذا نعيش بهذه الطريقة؟».

حديث نجيب محفوظ أشعل الشغف عند جمال أبو الحسن، الذى وجد نفسه فى هذه النوعية من الكتب، ما دفعه لكتابة كتاب يعكس هذا الشغف، يقول: «وجدتُ أن هذا هو ما يجمع بين شغفى لقراءة الفلسفة، وكتب تبسيط العلوم، وكتب التاريخ الشامل، وفكرتُ أن أفضل أن أجمع بين كل هذا الشغف فى فكرة واحدة تثير فضول القارئ لتفهم الظاهرة الإنسانية كلها، وساعدنى فى ذلك الطفرة التى حدثت فى المناهج العابرة للتخصصات فى العقدين الأخيرين، فبات للباحث المتخصص فى هذا الفرع المعرفى أن يتنقل بين أكثر من تخصص علمى مزودا بأدوات منهجية لكتابة تاريخ مختلف للبشرية يعتمد على ما يقوله تاريخ العلوم، بخلاف المرويات المعتادة من تسجيل روايات البشر للأحداث».

◄ التقنية
يصل مؤلف «300 ألف عام من الخوف»، إلى أن «الصورة التاريخية المعتمدة على العلوم تضع علامات استفهام تجبرنا على قراءة التاريخ التقليدى بشكل مختلف ونعيد مساءلته، وبالتالى تنشأ روابط غير متوقعة بين ظواهر وأحداث كبرى وتعيد تفسيرها. وهو ما جعل هذا المنهج ينتشر خصوصا مع توفر عدد من الباحثين الكبار عليه، أمثال: يوفال هراري، وديفيد كريتسيان، ممن لديهم القدرة على الكتابة الجاذبة لجمهور متنوع للقراءة فى مجال مراحل تاريخ البشرية».

ويعترف أبوالحسن أنه استخدم بعض الحيل الأدبية كتقنية لتوصيل أفكاره وأهدافه من الكتاب، قائلا: « أما عن التقنية المتبعة فى الكتاب، فكنت أريد كتابة عمل يخاطب القارئ من زاوية إنسانية ويشعره بأنه جزء من القصة الإنسانية نفسها، ويخاطب مشاعره وليس فقط تفكيره، بما يعزز من انتمائه إلى الأسرة الإنسانية. لذا استخدمت خدعة فى الكتاب، إذ يبدو فى الظاهر كأنه كتاب تاريخ لكن هدفه الحقيقى هو دفع القارئ وتحريضه على أن ينظر إلى المجتمع حوله ورحلة البشرية لأنه كقارئ جزء من هذه الرحلة، وينظر فى داخله ويعيد النظر فى علاقاته بالآخرين والمجتمع الذى يعيش فيه نظرة مختلفة، خاصة أن منهج التاريخ الكبير حيلة لطرح الأسئلة الكبرى، فالكتاب ليس عن التاريخ بالضبط، ولا تعد نقطة تفوقه نقل صورة تاريخية، فما حاولتُ الاجتهاد فيه هو دفع القارئ لإعادة التفكير بشكل جدى فى أمور كان يظنها من المسلمات. وهذه الأسئلة تراود الشباب فى سن المراهقة، وهى الفترة التى ينشغل فيها الإنسان بالأسئلة الكبرى ويبحث عن إجابات لها.

ويتابع: «الجزء الثانى من تقنية الكتاب تتمثل فى تقديم نظرات مختلفة للمشروع الإنساني، ومن ضمنها النظرة الرومانسية، وهى النظرة التى عبرت عنها الابنة المراهقة فى الكتاب، وهى نظرة رومانتيكية للمجتمع ترفض حكم القلة والحروب والفوارق الطبقية، فى مواجهة المسار الذى رسمته الطبيعة والحياة لمسار البشرية والمبنية على السببية. أما استخدام الكورونا كتقنية ومدخل فكان باعتبارها ظاهرة وذكرى مشتركة بين البشرية كلها، وهو ما يجمع الشعور الإنسانى العام على مواجهة خطر بيولوجى بما يعكس وحدة المسار البشري، لنصل إلى قناعة بأن الأحداث الكبرى فى تاريخ البشرية ليست بالضرورة الحروب بل يمكن أن تكون أحداثا بيولوجية».

◄ القبول
النجاح النقدى والجماهيري الذي حظى بهما كتاب (300 ألف عام من الخوف)، شكل مفاجأة سعيدة للمؤلف، الذى ذهب إلى أنه لم يتوقع هذا القدر من القبول لموضوع الكتاب، وأضاف: «الفرحة الأكبر أن نقاد الأدب أعجبوا به، وهم من الكتاب الكبار وأدباء راسخون بالأساس، خصوصا أنهم أشادوا بالصنعة الأدبية فى كتاب غير أدبي، ما يكشف عن عطش السوق لهذا النوع من الكتابة الأدبية العلمية، خصوصا أن عندنا فى مصر مشكلة بخصوص الكتابة العلمية الموجهة للجمهور العام، وهى مشكلة نشعر بها جميعا».

لكن هذا النجاح لا يغرى المؤلف بتكرار التجربة فى جزء ثان يكرر فيه تيمة الكتاب الأول، لكنه يفتح الباب على مصراعيه لتجريب أشكال أدبية مستقبلا، يقول: «أنا لست متخصصا فى التاريخ ولا دارساً دراسة أكاديمية، وصنعتى الحقيقية هى الكتابة وعرض الأفكار لتحريض القارئ على التفكير، ولا أريد أن أكرر نفسي، لذا فالألعاب كثيرة وجراب الحاوى لا ينفد، وإذا أعجبت القارئ حيلة كتاب (300 ألف عام من الخوف)، فلا يعنى تكرارها فى كتب مستقبلية، فلا أريد أن أقع أسيرًا لنجاح الكتاب».