تساؤلات

روح على روح

أحمد عباس
أحمد عباس

كلاهما صاحب همة وعزم وبأس وخلافه، الرجلان يتحديان الإعاقة كل على طريقته، تم تعيينهما فى جهة حكومية كبرى فى وقت سابق لما كانت هناك تعيينات، أعتقدهما خضعا لميزة تعيين ٥٪ من قوة كل مؤسسة من ذوى الهمم والاختلاف، لا أعرف شرحا تفصيليا لكل حالة لكن بمتابعة طويلة لكل منهما بمفرده فأحدهما مصاب بسمنة وصعوبة فى الكلام وثقل فى الحركة وسمع محدود وإدراك وطريقة فهم لا يتناسبان مع ما صرنا عليه من صلف، أتخيل دائما حجم التنمر الذى تعرضت له هذه النفس الرقيقة والروح الرحبة ولا أفشل فنحن البشر معجونون بالتنمر كأننا ننتقى نقائص الناس لنخفى عيوبنا واللعبة هكذا تدور زد على ذلك اذا كان المجتمع جاهلا وثقيل الظل ودائم الاستخفاف والاستظراف وحسه منتهك.


يُستغل الأول فى المشاوير الهامشية جدا التى لا حاجة لها أصلا، كأنه ساع يوصل أوراق من مكتب الى اخر ومن قسم لقسم ومن يد لأخرى فى أى وقت يستطيع فعل ذلك، فلا الأوراق مهمة ولا جدوى فى توصيلها من عدمه، يسلمها الرجل الى محطتها المطلوبة ثم يجلس ليستريح الى أقرب كرسي.. وهكذا أراه ولا أملك له شيئا الا بعض من مداعبات بسيطة وابتسامة هادئة لعلها تشرح له قلبه، ثم أمضى أردد كل صيغ الحمد والشكر والثناء على خلقتى وتفصيلي.
أما الرجل الثانى له اختلاف آخر أصابه بالنحافة وعجز ما فى ساقه اليمنى، هى موجودة -ساقه- وتعمل لكن حركتها شحيحة جدا كأنه يجرها وهو سائر، يزيد الحمل على يسراه متكئا عليها ثم يسحب الثانية الى جوارها، يستغرق فى اقرب مشوار وقتا لا بأس به وحبذا لو وجد من يصاحبه ويتعكز عليه، يعمل فى وظيفة ادارية لست متأكدا من حقيقتها ربما فنى فى قسم متخصص يتطلب وجوده دائمًا، ملابسه نظيفة مكوية وهيئته هادئة يضع نظارة سميكة ولا يشارك الكلام مع أحد.
فى العادة الرجلان لا يلتقيان أو اننى لم ارهما بصحبة بعضهما من قبل، فى ذلك الصباح استعددت ليوم زخم خال من الأحداث المهمة ومليء بالمشاوير والطلبات والالتزامات كنت متكدرا جدا يومها لأسباب أعرفها ولا أعرفها المهم أن صفوى كان معكرا ووجهى متجهما وملامحى تقول إن أى احتكاك مباشر بى ستكون له عواقب وخيمة للغاية، وهذا كل ما رأيت..
الرجلان مجتمعان لأول مرة يجلسان الى جوار بعضهما على كرسى جلد واسع لكن يكفى لفرد واحد ويتبقى هامش ضيق من براح محدود، الأول افترش المقعد فغطى معظمه أما الثانى فتكور حوله على نفس الكرسى يشرح له شيئا فى هاتفه المحمول أو ربما يفرجه على فيديو ما، فى مشهد والله لو حكى لى أحدهم عنه ما تصورته بهذه الحميمية والرفق، يا الله على رحمتك كيف تضعها فى أرواح الناس بهذه النعومة واللطف، وما هذه القشعريرة التى تنفض بدنى ولماذا كنت معكرًا هذا الصباح، اللعنة علّى وعلى بشريتى الذميمة.


الموضوع ان هذه روح عبرت بروح فاستشعرتها برفق شديد وحنو لم أره ولربما أغادر الدنيا ولا أحس لحظة كتلك، المسألة ان هذه الروح رقيقة وهذه الروح هشة كلتاهما بكر لم يعبث بهما عابث فلم يتعبأ بكذب أو كراهية أو حقد حتى زخات التقليل والتنمر لم تترك فى نفسيهما بغض أو كره لأحد، وأنت أنت الجميل يا الله.
هذه صورة عبرت أمامى فى ستين ثانية على الأكثر وغادرتها منذ أسابيع ولاتزال تحاصرنى فأجهش وتختنق روحى وأسأل.. لماذا كنت متعكرا فى ذلك الصباح!