نادر غازي يكتب: الصمود الفلسطيني.. و"الصخرة" المصرية

نادر غازي
نادر غازي

** الوضع الآن، بين قوي وضعيف، حليف وخائن، ثابت ومترنح.. لا مجال مطلقاً لمقولة: "يبقى الوضع على ما هو عليه"،، فساعة تلو الأخرى، تتسارع الأحداث في إقليم الشرق الأوسط الحزين، جراء العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة المستمر منذ 7 أكتوبر من العام الماضي.. ويبدو أن بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي عازم على اجتياح رفح الفلسطينية، التي تأوي 1.4 مليون فلسطيني، بينهم 1.1 مليون من نازحي غزة كانوا قد هربوا من القصف الإسرائيلي الذي طال كل مناطق القطاع الجريح.

العالم يترقب العملية العسكرية الوشيكة في رفح الفلسطينية، وسط حالة من القلق الشديد والمناشدة بتجنبها.. إلا أن تلك المناشدات لا تجد صداها لدى قادة الاحتلال، فنتنياهو يؤكد أن عملية رفح وشيكة.. وبات الهجوم على المدينة التعيسة ليس مسألة احتمال، بل متى ستحدث؟!.

نتنياهو يبحث حالياً عن ضوء واشنطن الأخضر للإقدام على تلك الخطوة المجنونة، حتى لو كان الضوء خافتاً أو بصيصاً، عقب موافقة تل أبيب على خطة رفح للمرة الرابعة بعد معالجة التحفظات الأمريكية عليها.
فمن ذا الذي سيحمي نتنياهو المترنح، بعد أفعاله الجنونية وأعماله الدموية بحق الفلسطينيين الأبرياء، سوى الإدارة الأمريكية المتناقضة؟!.. ومن ذا الذي سيدافع عنه دولياً أو تحت قبة مجلس الأمن "الساقط أخلاقياً"، سوى الفيتو الأمريكي الظالم؟!.. ألن تترك واشنطن "طفلها المدلل" يواجه مصيره جراء أفعاله الطائشة، وتتفرغ للصراع بين "الحمار الديمقراطي" و"الفيل الجمهوري" في الانتخابات؟!!.

** وبين هذا وذاك، تبقى الدولة المصرية ثابتة ثبات الجبال ورسوخها دائماً وأبداً في مناصرة الحق الفلسطيني، ويواصل "صقورها" الليل بالنهار؛ للتوصل إلى هدنة - ولو مؤقتة - توقف إطلاق النار على غزة، وتمنع انفجار الأوضاع في المنطقة برمتها.

فمنذ اندلاع شرارة الأحداث بغزة منذ أكثر من 6 أشهر، بذلت القاهرة - ولا تزال - كل غالٍ ونفيس لوقف العدوان الإسرائيلي الغاشم على الفلسطينيين الأبرياء، ووقفت حائط صد منيع ضد تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين من أرضهم الطاهرة.

موقف مصر من تهجير الفلسطينيين، خط أحمر لا مجال فيه لأي مراوغة، وهو ما أعرب عنه المسؤولون المصريون في العديد من المناسبات وفي مقدمتهم الرئيس عبدالفتاح السيسي، سواء في قمة القاهرة للسلام أو خلال اللقاءات مع زعماء ومسؤولي دول العالم.. واستطاعت القاهرة أن تستقطب تأييد معظم حلفاء تل أبيب الدوليين لهذا الموقف القومي والعروبي، لاسيما من الدوائر الأوروبية والأمريكية.

هذا الموقف المصري الحازم والحاسم، يحمل في طياته أربعة أبعاد متشعبة.. أولها حماية القضية الفلسطينية من محاولات إسرائيل الشيطانية لتصفيتها.. وثانيها حماية سيناء الغالية من الأطماع اليهودية منذ سنوات بتهجير الفلسطينيين إليها.. والثالث هو حماية المنطقة من نشر الفوضى عبر هروب مئات الآلاف من الفلسطينيين برفح من خلال محور فيلادلفيا، كنازحين ولاجئين إلى دول الجوار.. أما البعد الرابع فهو وضع حداً لآلة البطش الإسرائيلية حتى لا تُقدم على خطوات مستقبلية تهدد الأمن القومي المصري والعربي.

** الفكرة اليهودية لتهجير الفلسطينيين من وطنهم الأصلى "فلسطين"، لم تكن وليدة العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة.. فعلى مر التاريخ، وحتى قبل ظهور دولة الاحتلال "إسرائيل" وحصولها على اعتراف دولي، تجلّت فكرة تهجير ساكني فلسطين الأصليين، في العديد من الدراسات والمقترحات الأمريكية والصهيونية..وكانت تلك المقترحات مجرد أفكار، وبمرور الوقت، ومع ظهور دولة الاحتلال، تم عرض فكرة تهجير الفلسطينيين إلى أراضٍ أخرى فيالمؤتمرات الرسمية، وعلى رأسها مؤتمر "هرتزيليا" الذي شارك فيه كبار المسؤولين من الولايات المتحدة الأمريكية ومنهم رؤساء سابقين وأيضاً أعضاء في الأمم المتحدة، وغيرهم منالخبراء والكوادر السياسية، حيث تم مناقشة فكرة إيجاد وطن بديل للفلسطينيين -خارج فلسطين-كحل نهائي لتلك القضية.

وفي خضم الأحداث الجارية وجراء الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة، طُرحت مرة أخرى على الساحة فكرة تهجير الفلسطينيين، ونقل سكان غزة إلى أراضي عربية مجاورة على رأسها سيناء، وتهجير سكان الضفة الغربية التي يسيطر الاحتلال على مساحات واسعة منها إلىأراضي المملكة الأردنية المجاورة، وهو ما يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية ومحو الدولة الفلسطينية بأكملها.. لكن هذا الطرح لاقى رفضاً واضحاً وحاسماً من الدولة المصرية والمملكة الأردنية.

لم تكن فكرة طرد الفلسطينيين، مجرد فكرة راودت أذهان النخبة من المؤسسين الصهيونيين،بل ُطرحت كخطط ومشاريع كان يتم البحث فيها في إطار مجالس الحركة الصهيونية، وتبنتهاشخصيات مؤثرة ذات انتماءات سياسية مختلفة داخل الحركة.. تلك الخطط سعت في الغالب لدفع الفلسطينيين إلى مناطق نائية عن فلسطين، وكان بين المناطق المقترحة، سيناء المصرية، ومناطق في الأردن، ومنطقة الفرات الأوسط في العراق، ومنطقة الجزيرة السورية، وكذلك اقتُرحت ليبيا والأرجنتين في مرحلة لاحقة لقيامالدولة الإسرائيلية.

وسعت الحركة الصهيونية على الدوام، إلى إقناع الدول الغربية - وخاصة بريطانيا - باستعمال نفوذها لدى العرب لحملهم على القبول بهذه الخطط الشيطانية.. وهناك ما يؤكد أن مشروع التقسيم الذيأوصت به لجنة "بيل" الملكية في عام 1937 إنما جاء بوحي هذا التأثير، وقد تضمن المشروع ترحيل الأكثرية العربية عن المناطق التي خُصِّصت لليهود.

ومن أبرز تلك الخطط الإسرائيلية عبر التاريخ: خطة "إيجال آلون" عام 1967، التي اقترحها السياسي والقائد العسكري الإسرائيلي "ألون" على مجلس الوزراء الإسرائيلي في يوليو 1967، بعد انتهاء الحرب مباشرة، لفرض تسوية إقليمية.. وخطة "أرئيل شارون" عام 1970، التي اقترحها "شارون" لتفريغ قطاع غزة من سكانه.. ومشروع مستشار الأمن القومي الصهيوني "جيورا أيلاند" عام 2004، الذي تضمن تنازل مصر لقطاع غزة عن مناطق من سيناء.. وخطة "يوشع بن آريه" عام 2013، التي قدمها الرئيس السابق للجامعة العبرية "آريه" مقترحاً إقامة وطن بديل للفلسطينيين في سيناء.. ووثيقة سرية لوزارة المخابرات الإسرائيلية عام 2023 دعت لتهجير سكان غزة إلى سيناء عقب عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي.. وكذلك دراسة لمعهد "مسجاف" للأمن القومي والإستراتيجي الإسرائيلي في 17 أكتوبر عام 2023، طالبت بإخلاء قطاع غزة بأكمله بالتنسيق مع مصر مقابل دعم الاقتصاد المصري.

منذ قرن تقريباً بدأت مخططات التهجير، وحتى اليوم لاتزال تلك المقترحات تُناقش في الداخل الإسرائيلي، وتسعى حكومة نتنياهو إلى إيجاد ثغرات تحقق لها أهدافها في التخلص من ملف الفلسطينيين والقضية الفلسطينية.. ولكن، تلك المخططات تحطمت على صخرة الصمود الفلسطيني والانتفاضات المتكررة، ورفض الدولة المصرية المستمر على مدار التاريخ بالرغم من الضغوط الدولية.

** يبدو جلياً، أننا في الجزء الأخطر من النزاع الذي انطلق قبل ستة أشهر ونصف، لأن نتنياهو قرر خلط الأوراق على حافة توسيع الصراع، أو إضفاء شرعية واهية على تهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار.. وهنا ستظل الدولة المصرية بالمرصاد لمخططات إسرائيل الشيطانية بالمنطقة، دائماً وأبداً.. وتحاول جاهدة الآن، التوصل إلى هدنة جديدة مع كافة الأطراف المعنية، لوقف إطلاق النار في قطاع غزة البائس..