عباس ثائر يكتب : ناظر القطار الشعرى

عباس ثائر يكتب : ناظر القطار الشعرى
عباس ثائر يكتب : ناظر القطار الشعرى

الموتُ وحده يقين الأحياء، حتى الشكاكون منهم لمْ ينجُ من مغنطته العجيبة. بإمكان الإنسان أن يتنكرَ للولادة، أنْ لا يؤمنَ بالولادات القادمة بمجرد أن يفكر أن العالم يتجه نحو تقويض الانجابِ والعزوف عن الزواج، ولكن هل بوسعهِ أن يتنكر للموت ولا يؤمنَ بقدومه الحتمى المستمر؟ عن نفسى لا أظنُ ذلك. الموت هو السفرُ الأخير، سفرٌ لا يتوقفُ أبدًا عند محطة ما، لمْ نشهدْ أحدًا نزل بمحطة ليستريحَ، وكان قد استقلَ قطارَ الموت، أنه قطارٌ يتحركُ دون توقفٍ، دون وجهةٍ يسيرُ، يستقلُه مسافرٌ لمْ يقفْ لحظةً؛ ليتزودَ بمتاع بعد أن جلسَ فى إحدى عرباتهِ، سفرٌ لا يعرفُ للبوصلةِ معنىً، إنه سفرٌ فحسب، أتحدث عن المعقول المادى لا الميتافيزيقى والمروي.

الحديثُ عن سفر الموت يقودُنا للسفر بقطار عاطل، وقبل أن نرى القطارَ وكيف تعطلَ، وكيف يمكنُ السفرُ عبرَه، ينبغى أن أعرجَ على شطرٍ من بيت إحدى قصائد الشاعر حسين هليل: «سافر بِبُطءٍ رافقتَك الأنهرُ» هنا يبتهلُ الشاعرُ للآخر المسافرِ، برفقة الأنهر، إذ إن الجملةَ الشعريةَ هذه تكشفُ عن رقة الذاتِ واخلاصِها للاخر، أعنى ذاتَه المائيةَ الشفافةَ التى تتضحُ فى الشطر أعلاه، وهو خيرُ ما يُستدلُ به على تجربته الشعرية والإنسانية، فمن يعرفُ إنسانيتَه لن يعثرَ حتى على خيط رفيع عازل بين التجربتين - الإنسانيةِ والشعريةِ- و صدرُ البيتِ هذا ما هو إلّا انعكاسٌ صريحٌ وصارخٌ لشخصيتِه وتركيبتِه السيكولوجية، فهو هادئٌ متأنٍ -غالبًا- فى ردود أفعالِه، تجاهَ من يحاولُ أن يجرحَه جرحًا معنويًا أو حتى ماديًا، متأن ٍحتى فى قصيدته، إذ ينتظرُها تنضجُ على مَهلٍ دون أن يستعجلَها، ليَقطِفَ ثمارَها بعد ذلك، أسوقُ ما تقدمَ؛ لأقولَ: إن اللغةَ الشِعرية لدى صاحبِنا هى لغةٌ مولِّدةٌ ومولَّدة، إذ أنه جعلَ من الدعاء الشهير: «رافقتك السلامة»، «رافقتك الأنهر»، كأنه يفعلُ عبرَ القولِ و القصِ الشعرى المختزلِ المكثف، ما تفعلُه النساءُ العراقياتُ حين يسافرُ عزيزٌ بأن يَسكبْنَ ماءً خلفَهُ، ليضمْنَ وصولَهُ فعودتَهُ سالمًا، من أين أتت هذه الأسطورةُ؟ ليس مهمًا مرجعُها بقدر ما يَهمُنا استلهامُ الشاعرِ للميثيلوجيا الشعبية و «التفاعلُ نصيًا» معها والافادةُ منها، وخلقُ القولِ فعلًا محسوسًا مشهودًا فى الذهن، إذ إنه جعلَ من القولِ المستهلكِ اليومى صورةً تحكى وتتحركُ وتُرى، كلُّ هذا عبرَ القصِ الشعرى الموجز «الموجز!» وإن المرءَ ليبتهلَ كشيءٍ من الأعراف الإنسانية المشتركة نسبيًا، إذا ما غادرُه مغادرٌ ما لمكان ما بأن «ترافقه السلامة»، بينما انتهز هليل الشائعَ العامَّ من القول، ليجعلَه خاصًا عامًا «خاصًا لأن القولَ سينسبُ له، وعامًا لأنه بعد ذلك سيصبحُ قولُه - رافقتك الأنهرُ- بمتناول الجميع» إنه الانتهازُ الذى لا يدخلُ ضمنَ الانتهازِ المحظور اللانساني، فالشاعرُ هنا أوّلَ النهرَ بالسلامة، أى أن النهرَ هو السلامُ والطمأنينةُ بحسابه. وللشاعرِ الذى يرى النهرَ السلامةَ، التى ينبغى أن ترافقَ الاحبةَ إذا ما سافروا، رأيٌ آخرُ فى السفر، ويبدو أنه استقرَ عليه أخيرًا فعنوّنَ مجموعتَهُ الشعريةَ ب «سفرٌ بقطارٍ عاطل» (الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتّاب فى العراق إثر فوزِها بالمرتبة الأولى فى مسابقة الشباب، الدورة الرابعة، دورة الشاعر الراحل أكرم الأمير)، فإن السفرَ عبرَ قطار عاطل يصلُ الى «مدينة لا أين»، ولكنْ هل يسافرُ المرءُ عبرَ قطار لا يتحرك؟ يظهرُ أن السفرَ هو الإنسانُ، والقطارَ العاطلَ الزمنُ، فالقطارُ يبقى قطارًا وإن تعطل، إذ لا تزولُ عنه صبغتُه المادية، ولا يتبدلُ مسماهُ لمجرد أنه توقفَ عن العمل أو تعطل، إلّا أن الإنسانَ هو الذى يسافرُ مستقلًا هذا القطارَ ليصل أخيرًا لمكانه الذى سيتخذُه موطنًا أبديًا، أى أنه الموتُ. فعبر المجاز المحكم الدقيق فى الوصف يحاولُ هليل أن يزيلَ البونَ الشاسعَ بين الممكناتِ واللاممكنات، وللمفارقةِ أيضًا أن خيالَه الواسعَ قد أخذنا معه لمستحيلِ اللامستحيل؛ إذ كيف لنا أن نسافرَ عبرَ وسيلة سفر عاطلة؟ هذا سؤالٌ يُواجِهُ قراءةَ العنوانِ، قراءةً ظاهريةً، بينما يكشفُ باطنُ النصِ فكرَ الشاعرِ الذى أضمرَه واستظهرَ غيرَه عبرَ ثلاث كلماتٍ «سفر بقطارٍ عاطل» فى دعوته للسفر الحتمي، وهو ينزوى للواقع المنكسر، ويؤمنُ بزوال الأشياءِ دون أن يضعَ مستخلصاتِ التجميل على وجه الحياة لتَظهرَ بشكلٍ آخر غيرِ ما هى عليه واقعًا، وبحُلّةٍ أخرى جميلةٍ إلّا أنها كاذبةٌ مصطنعةٌ، هنا قد خرج الشاعر على بعض أسلافه من شعراء العمود، ذوى الفروسية والقوةِ الأزلية؛ واصطف لجانب الشاعرِ الهشِ الكائنِ الضعيف الذى يتألمُ مثلَ الآخرين ويصرخُ ولا يكابر، يتألمُ لأنه من جنس البشر لا الكائنات الخيالية الخارقة، هذه هشاشةٌ سبقَه إليها السياب والماغوط وبعضُ «الشعراء الزُجاجيين»، الذين كانوا يُعلنون عنها صراحةً فى نصوصهم، فمثلَهم كان حسين هليل، «شاعرًا زُجاجيًا». وبالعودة للعنوان، فهو يكسرُ قفلًا قديمًا على بابٍ كثيرِ التأويلات، يُدخلُ القارئَ للغة واضحة عميقة مع شيءٍ من الغموض المفهوم، فيسافرُ بقطار الإيحاء والتلميح والالتقاط الذكي، تاركًا قطارًا عاطلًا خلفه، كعلامةٍ تشيرُ الى السفر الأبدى عبرَ الخيال والمجاز . من خلال السفر بقطارٍ عاطل، قد سمح ناظرُ القطار الشعرى أن يمدَ الماديُ يدَه لمصافحةِ المعنوى وإنه قد كشّفَ عن تماهى اللغةِ الشعرية عنده وتحرُكِّها بين ما هو ملموسٌ وما هو محسوسٌ. عنوانُ الكتابِ عندى -أيُ كتابٍ كان-يستدعى وقفةً طويلة، لا سيَّما أن عنوانَ الكتاب الأول للشاعر حسين هليل، المولود فى قضاء الرفاعي، فى العام ١٩٩٦ هو عنوانٌ مخلوقٌ من لغةٍ تلميحيةٍ إن صح التعبيرُ، فهو قد أخرّجَ السفرَ من معناه الدنيوى لغةً وظاهرًا الى معنىً آخرَ وهو السفرُ اللّدنى من خلال ما اكتنَزَه من معرفة. يبدو أن انساقه الثقافيةَ وقراءاتَه المختلفة لا سيَّما الدينية بشكلٍ عام، والصوفيةَ والعرفانية بشكلٍ خاص قد ساهمت فى تشيد التركيبةِ اللغويةِ لديه وتسرّبت بعفوية لظاهرِ النص، وهذا ما يُحسبُ للشاعر أنه استخدمَ جميعَ أدواتِه الثقافيةِ وإن تنازلَ عن التمسكِ ببعضها، فيْ ما بعد، ليظهرَ قولُه الشعريُ فى أحسن ما يمكنُ إظهارُه.