حبر على ورق

حكاية الأميرة فاطمة

نوال مصطفى
نوال مصطفى

تنعمت فى حرير القصور الملكية، ترفل فى أغلى الثياب، تتزين بأثمن المجوهرات، فقد ولدت ابنة لواحد من أهم حكام مصر، الخديو إسماعيل. ورغم تمتعها بوجاهة العز ونفوذ السلطة كانت تعشق الثقافة، تحب القراءة. حلمت بالتعليم، لكنه كان الشيء الوحيد الذى حرمت منه، فقط لأنها فتاة!.

عاش الحلم داخلها، وفى عام 1871 تزوجت من الأمير طوسون بن محمد سعيد باشا، والى مصر، الذى أهداها مجموعة نادرة من المجوهرات مرصعة بالماس والأحجار الكريمة، وكان خدم القصر يحملون شكمجيات الأميرة التى تنتمى إلى الأسرة العلوية بصعوبة من ثقل القطع التى تحتويها.

كان من الطبيعى أن تعيش بلا هموم تشغل بالها، ولا مسئوليات تثقل فكرها. لكن هذا ما لم يحدث، فقد  حكى لها طبيبها الخاص المشكلة التى تواجه بناء الجامعة المصرية، وكيف أن المسئولين عن هذا الإنجاز يواجهون التعثر، ويحتاجون إلى الكثير من الأموال .

تسلل الأرق إلى قلب الأميرة الجميلة، باتت ليلتها تفكر كيف تنقذ تلك الفكرة العظيمة؟ وكيف تساهم فى هذا الصرح الكبير الذى سوف يرفع راية تعليم أبناء مصر؟ تحركت بسرعة، قررت منح  أرضها كوقف خيرى يخصص لبناء الجامعة المصرية، التى أصبحت الآن جامعة القاهرة. كان هذا الوقف يدر فى تلك الفترة ٤٠٠٠ جنيه سنويًا كانت تدخل كلها فى ميزانية الجامعة، وهو ما ضمن لها دخلًا مستقرًا وثابتًا للصرف على المبانى والمعدات.

لكنها عرفت أن الجامعة لا تمتلك مقرًا ثابتًا يتلقى فيه طلابها علومهم، فقررت منح ٤٠٠ جنيه سنويًا ـ وهو مبلغ ضخم بتقدير تلك الفترة الزمنية عام 1908 ـ لتسديد إيجار مبنى الخواجة «جناكليس»، وهو نفس المبنى الذى تشغله حاليًا الجامعة الأمريكية بميدان التحرير، وسط القاهرة .
ثم أعلنت تنازلها للجامعة عن مساحة ستة أفدنة ليبنى عليها حرمها، إلى جانب وقفها ريع ٣٣٥٧ فدانًا و١٤ قيراطًا و١٤ سهمًا من أجود الأراضى الزراعية فى مديرية الدقهلية بمنطقة الدلتا.

كل تلك الأموال للأسف لم تكف لإتمام بناء باقى مشروع الجامعة الذى كان يتكلف فى ذلك الوقت ستة وعشرين ألف جنيه، فعادت الأميرة فاطمة من جديد لتتبرع للجامعة ولكن فى تلك المرة كان التبرع ببعض قطع جواهرها الثمينة التى قد أهدتها للمشروع، على أن تتولى إدارة الجامعة بيعها وفقًا لما يراه المسئولون لمصلحة الجامعة، وعندما تم عرضها بالجامعة لم يتم التوفيق فى بيعها، فاتخذوا قرارًا بأن يعرضوها للبيع خارج القطر المصرى، فأوكلت الجامعة الدكتور محمد علوى باشا، طبيبها الخاص، وعضو مجلس إدارة الجامعة فى عملية البيع، وتمكن محمد علوى باشا من بيعها بسعر مناسب جدًا عاد على الجامعة بالنفع الكبير، فقد بلغ إجمالى بيعها حوالى سبعين ألف جنيه مصرى تقريبا.

لم تحضر الأميرة فاطمة حفل وضع حجر أساس الجامعة بسبب تقاليد المجتمع المحافظ فى ذلك الوقت، والتى تمنع مشاركة المرأة فى الفعاليات العامة، وحضر ابنها نيابة عنها، بالرغم من تحملها مصروفات هذا الحفل، وتبرعها بأرضها لبناء الجامعة، تم ذلك يوم الإثنين الموافق 31 مارس 1914، وقام بوضعه الخديو عباس حلمى الثانى.

 حضر الاحتفال الأمراء والنظار، قاضى مصر، شيخ الأزهر، العلماء، قناصل الدول، رئيس وأعضاء الهيئة التشريعية، ذوو المقامات وأصحاب الصحف والأدباء فى مصر. لم يحضر قائد جيش الاحتلال كرومر واللورد كتشنر لإدراكهما أن بناء الجامعة معناه خروج طبقة من المثقفين المصريين الذين يعرفون معنى الاستقلال عن المستعمر، واستعادة الوطن والهوية.

ويشاء القدر ألا ترى الأميرة الحلم الذى منحته كل أموالها ومجوهراتها الثمينة وأرضها وأملاكها «الجامعة المصرية» وافتها المنية أثناء إتمام مبنى جامعة. وفى 11 مارس 1925 صدر مرسوم بقانون إنشاء الجامعة الحكومية باسم الجامعة المصرية وكانت مكونة من كليات أربع هى: الآداب، والعلوم، والطب، والحقوق. وفى العام نفسه ضمت مدرسة الصيدلة لكلية الطب.

هكذا كانت فاطمة إسماعيل هى أميرة العلم والعطاء بلا منازع.