حسن عبد الموجود يكتب : اجتماع الخميس

حسن عبد الموجود يكتب : اجتماع الخميس
حسن عبد الموجود يكتب : اجتماع الخميس

لمدة سنوات طويلة كان اجتماع أخبار الأدب يتم صباح كل خميس فى مكتب الأستاذ جمال الغيطانى فى الطابق الثامن من المبنى الصحفى الجديد. تعامل الغيطانى مع الاجتماع باعتباره المحرك الرئيسى للجريدة ووقودها، حيث أمدها بالأفكار ومنحها التجدد والاستمرارية وربطها بالأحداث الجارية، سواء فى محيطها المحلى المصرى أو فى محيطها الأكبر العربى. امتلك الغيطانى حماساً لهذا الاجتماع يكفى لشحذ همم الجميع وإبقائهم متيقظين. خصص لكل فرد منا مصدراً، والمصدر هو مؤسسة أو جهة كالآثار أو اتحاد الكتاب أو

المركز القومى للترجمة أو المجلس الأعلى للثقافة وغيرها. كان على كلٍّ منا أن يفكر فيما يخصه، وهذا لا يعنى أنه لن يفكر أبعد من من المصدر، أى أن أحدنا قد يقترح على الآخر فكرة موضوع تتعلق به أو بأى شىء آخر. ونحن قد نتخطَّى المصادر، خاصة فى فترات ركود نشاطها، إلى موضوعات أكثر أهمية. كان الاجتماع أقرب إلى العصف الذهني، يبدأ بعبارة من الغيطانى أو منا ثم تنطلق مناقشات لا تعرف التراتبية وإنما إفساح المجال لكل فردٍ يريد أن يتكلم، حتى لو كان ذلك الشخص انضمَّ إلى الجريدة منذ ثلاثة شهور فقط، أقصد نفسى وقتها.

لم يكن هناك مجال للاختباء فى الغرفة الضيِّقة التى ننحشر فيها على كنبة جلدية سوداء ومجموعة كراسى معدودة، بينما يجلس الغيطانى خلف مكتبه الذى يضع فوقه تمثالاً فرعونياً ومجموعة مجلات أجنبية، بينما تستقر خلفه مكتبة فن تشكيلى جمع كتبها خلال سفرياته إلى مختلف أنحاء العالم، فمنحت الجريدة تنوعاً بصرياً فى وقت لم تكن فيه مواقع ولا إنترنت. كانت محاولة التهرب من طرح فكرة ستبدو مفضوحة ولذلك يأتى الجميع جاهزين ومسلحين بالأفكار، ثم صار هذا نهجاً واضحاً، خاصة مع الاقتناع بأن من يقود الجريدة كاتب كبير وصحفى من طراز رفيع، نجح فى إشعار كل فرد بأن الجريدة جريدته وأنه يعتمد عليه بشكل خاص، ولا يمكنه الاستغناء عن مساهماته وأفكاره وحضوره، وبالتالى أسهم تعدد الأفكار فى ثراء المادة التى تقدمها الجريدة، إذا وضعنا فى الاعتبار أيضاً المادة التى نطلبها من كتَّاب فى مصر أو العالم العربى، أو حتى التى تصلنا منهم بدون طلب أو تكليف.


كان الاجتماع يبدأ بتلك الجملة البسيطة كما أقول، منا أو منه، ثم تجر الجملة جملاً وتعلو الأصوات ثم تنخفض، تتخللها الحكايات الطريفة فتعلو الأصوات بالضحك، وكانت فترات الراحة هى فترات رنين تليفون الغيطانى وظهور اسم كاتب على الشاشة لا يمكنه تجاهل الرد عليه، من عينة محمود درويش أو جابر عصفور، ثم يعود كل شىء إلى نفس صيغته القوية والحماسية بعد انتهاء المكالمة، خاصة مع حماسنا مثلاً إذا قال إن درويش سيرسل إلينا قصيدة جديدة.. إلخ. وقبل السوشيال ميديا بكثير كان ذلك الاجتماع هو أحد مصادرنا إلى المعلومات، فكل فرد يعرف من الآخرين ما غاب عنه غالباً، بعد أن نقرأ الجرائد المصرية والعربية التى تصلنا بانتظام، وبعد أن نتواصل مع مصادرنا وأصدقائنا هنا وهناك. نقضى الأسبوع فى كتابة الموضوعات لتُنشَر خلال العدد الحالى، ثم ينتهى كل شىء بنهاية يوم تنفيذ البروفات (الأربعاء) فنبدأ التفكير فى العدد التالى مباشرة.


ولا يعنى تحديد موعد الاجتماع بالخميس أن الأمور الطارئة تؤجل إلى الأسبوع القادم، فبإمكانك أن تطرق باب الغيطانى لتعرض عليه فكرة جديدة، وبإمكانه هو أن يناديك بصوته القوى ليتبادل معك نقاشاً سريعاً حول أمرٍ ما، وبإمكانه أن يتصل بك أو تتصل به على مدار اليوم، وكذلك لم يخلُ الأمر أحياناً من مجالس الحرب، ومجلس الحرب هو اجتماع طارئ للغاية لا يكون متاحاً حضوره إلا لمجموعة من الزملاء القدامى، الأكثر قرباً من الغيطانى لمناقشة أمر جلل، كتقديم ملفٍ يليق بالثقافة العراقية بعد الضربة الجوية الأمريكية الأولى أو الثانية، أو تغطية أزمة رواية الكاتب السورى حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر» أو أزمة الروايات الثلاث، أو كيفية إدارة الصراع وقتها مع الوزير فاروق حسني، وغيرها.


وكان عزت القمحاوى حتى قبل أن يصبح مديراً للتحرير بشكل رسمى يساهم فى بلورة النقاشات، وغذَّى الجريدة بنهر فرعى جميل هو نهر الأعداد الخاصة التى كان يطبخها على نار شمعة، ومن خلالها اكتسبت أخبار الأدب وجهاً جديداً مع وجوهها المتعددة الأخرى، ويمكن تسمية هذا النهر «نهر البساطة»، إذ يقوم على أفكار تبدو لأول وهلة بعيدة كل البعد عن الأدب، لكن مع توالى الأعداد صرنا مقتنعين بأن ما يقدمه القمحاوى درس فى تحويل الصحافة إلى نوع من الأدب الرفيع، فمن يصدق أن الكتابة عن «الحمام» يمكنها أن تنتج عدداً خاصاً ومميزاً من أخبار الأدب؟ كان باب عزت القمحاوى مفتوحاً أمامى طوال الوقت للمناقشة وتعميق الفكرة حتى قبل أن أقترحها فى الاجتماع، وكان الجلوس معه وهو يقرأ موضوعاً لى أشبه بدرس ممتد، وإذا كنت قد استفدت من الغيطانى فكرة الإدارة فقد استفدت من عزت القمحاوى دروساً صحفية تتعلق بعشرات التفاصيل التى أصبحت أنقلها بدورى إلى زملاء أصغر سناً فى أماكن أخرى عملت بها.


كانت المكافأة تأتى فى اجتماع الخميس، حيث يُخرج الغيطانى من جيبه ورقة بخمسين جنيهاً ويعلن أنها ستذهب إلى هذا الزميل أو ذاك مكافأة له على قنصه لخبر مهم، أو كتابته موضوعاً من المنتظر أن يثير ردود فعل كبيرة، ثم يمثِّل أنه فى مؤتمر صحفى حيث ينهض ويسلم على الزميل ثم يمنحه الخمسين جنيهاً بينما يتولى زميل آخر التصوير بـ «الطريقة الأمريكانى»، فلا وجود لكاميرا، ولا حتى كنا نعرف وقتها الموبايلات الحديثة، وكل ما يفعله الزميل أنه يمثل دور المصوِّر، حيث يرسم بأصابع يديه كاميرا ويضعها أمام عينيه. كنت أحلم بهذه اللحظة وأنتظر أن أنالها لكنها لم تحدث أبداً، غير أننى للأمانة كنت أحصل على جائزتى بمكالمات من الغيطانى إذا أعجبه موضوع، ولا أنسى ما قاله لى عن تحقيق كتبته عن الحياة فى أديرة وادى النطرون بأن هذه هى مصر الحقيقية التى يجب أن يعرفها الجميع.


كما كنت أتلقى مكافآتى من زملاء أقدم منى فى المكان. كنت أصل مبكراً إلى مقر الجريدة يوم الخميس، وكان الباب يُفتح كل فترة ويطل وجه أحد الزملاء باسماً، ويلقى تحية الصباح، ويبحث عن الجريدة، ويطالعها بشغفٍ، وبعد قليلٍ يرفع صوته بالثناء على ما كتبته فأشعر بسعادة طفولية لا أشعر بها الآن حتى مع صدور كتبى. كانت الجريدة ولا تزال مقراً للعائلة، قد يحدث بين أفرادها أحياناً سوء فهم، لكن العائلة فى النهاية قادرة على إذابته ومحوه، وإعادة الوئام إلى صورته الأولى.