«ضياع حلوى الشعر» قصة قصيرة للكاتب محمد فرحات

قصة قصيرة للكاتب محمد فرحات
قصة قصيرة للكاتب محمد فرحات

«ضياع حلوى الشعر» قصة قصيرة للكاتب محمد فرحات

أرسلَ الله(مَـلَـــك) لــتُسعِـدَ وتُـســاعِد أبويها؛ فـعـشـقـاهــا حـتَّـى إنَّـهما لـم يُصدِّقا ما جـرى لـها أمامهما.

 على الـجَـلــبــة الصباحيَّة لأفراد عائلتها اسـتـيـقـظَـت (مَـلَـــك) مِن تـحت الشُـــبَّــاكِ الكبير الذي ظلَّ مفتوحًا طوال الليل؛ لـتَـعـبـرَ منه نسمات ليل الصيف فوق النائمين داخل الدار، وتَـحرَّكت وهي تـقـفــزُ بـمرحٍ فـي ساحة دَار جَدِّها (ريَّان) وشعرها الأسود الـحلو يطير خلفها؛ فأغْــرَت كــلَّ مَن صادفها فـي الدَّارِ بـتـقـبـيــل خـدَّيـهــا الـمُمـتـلــئــيــنِ الأحـمـريــنِ.

 

تـحـفـظُ الصَّغيرةُ(مَـلَـــك) ما عـليـها فِـعـلــه كلّ صَباحٍ؛ رفعت ذراعها القصيرة فوق شُوالاتِ الأرزالـمضروب الـمرصوصة وسط دَار جَدِّها (ريَّان)، وقفزت وأمسكت كيس حلوى الشَّعر البيضاء الَّـتـي تُـحبُّها والَّـذي جلبه لـها أبوها مِن مولد العارف، ثُـمَّ توجَّهت إلـى باب زريبة جَدِّها وفتحتها.

 

قامت الـجاموسة السّوداء الضخمة مِن مَرقدِها حين رأت (مَـلَـــك) قادمة نـحوها، فتقدَّمت (مَـلَـــك) بلا خوف، وفَــكَّـــت حَـبــل رشـمـتـهــا الغـلـيــظ مِن حَـلَـقـتِــه الـمعدنـيَّــة، وخرجت من باب الزريبة وهي تُـمسكُ فـي كفِّها اليُمنـى كيس حلوى الشعر، وبكفَّها اليُسرى أمسكت حبل الـجاموسة وقادتـها لتخرجَ معها للطريق مُتجهة بـها نـحو غـيطان جَدِّها.

 

 مشت (مَـلَـــك) أمام الـجاموسة وهي تـمسك بـمقودها بكفٍّ، وتُـحاول أكل حلواها بكفِّها الأخرى. جلابـيـتُـهــا الـخفيفة الَّتي تزركشها ألوان الورود لا تـحميها من حرارة الشَّمسِ، الَّتـي بدأت تُــلــهِــب القرية، وتَـلـسـعُ الفلاحيـنَ الذَّاهـبـيـنَ لـحقولِـهم والعائدينَ منها فوق حَـميرهم، فمَشت بـخطواتـها البطيئة وسطهم فـي الطريق وهي لا تستطيع تذوق حلواها؛ لأنَّـها تُـمسكُ بـالـحـبـلِ الـثَّـقـيــل للـجاموسة التـي تسير وراءها؛ توقفت على جانب الطريق ووقفت الـجاموسة العملاقة خلفها، ربطت (مَـلَـــك) حبل رشـمة الـجاموسة حول وسطها الصغيربإحكام، وأكملت سـيــرها للغيط، وهي تُـمسك كيس حلواها بكف وتأكل منه بكفها الأخرى، وسار بـجـوارِهــا ظلُّها، وسار خلفه ظلُّ الـجاموسة الـممتد على الأرض كشـبـحٍ أسود ضخم، وربطَ الظلين معًا ظلُّ حبل الرشـمــة.  

 

ظلَّت تأكلُ مِن كيسِ حلواها بفرحٍ، حتَّـى وصلت للـتُّـرعــة العريضة وسط الغيطان الـخضراء الـخالية من الناس، شعرت (مَـلَـــك) بالعطش من حرارة الـجو اللافح، وشعرت- أيضًا- بعطش الـجاموسة؛ فاقـتـربـت بـها مِن الـتُّـرعـة لـتسقيها.

اقتربت الـجاموسة السوداء بـخطوات سـريـعـة من الـتُّـرعــة الواسعة، وأنزلت رأسها الكبير للماء وشربت، وشعرت حول ساقيها الأماميتين بـبرودة ماء الـتُّـرعــة؛ فتقدمت خطوات على ضَـفـة الـتُّـرعــة.

 

نــطَّــت الـجاموسة فـي الـتُّـرعـة مَــرَّةً واحدة لـيُحـيـطَ الـماء البارد بكلِّ جسمها؛ فاخـتـفـت ولـم يـظهرفـي الـتُّـرعــة إلَّا رأسها، وجـرى حِبـلُ رشـمـتـهــا خلفها سريعًا حتَّـى سحبَ (مَـلَـــك) الصَّغيرة سحبة شديدة إلـى وسط ماء الـتُّـرعــة العريضة. 

تَــركَــت كفُّ (مَـلَـــك) كيسَ حلواها فضاع فـي الـماء، ولـم تـجد قدماها أرضًا لـتـقــفَ عليها؛ فأخذت تـهبط وترتفع بـجسمها الصغير، وتغيرت ملامح وجهها الرَّقيقة.غطَّاها الـهلع وهي لا تعرف كيف تُـخلِّص نفسها من الـحبل الـمربوط حول وسطها، ومن الغرق وسط الـماء.

صرخت(مَـلَـــك) وسط ماء الـتُّـرعـة وهي تبكي، ولكنَّ الـماءَ لا يسمع، دخل أنفها وفمها وتـحرَّك حولـها بعنف كأنَّـه وحش انقضَّ على فريسته الضعيفة، وهَبَطَ جَسَدُها فـي أحشاء الـماء، ولـم يعُد يظهر فـي الـتُّـرعــة غير رأس الـجاموسة.

 

استحمت الـجاموسة وخرجت من الـتُّـرعــة،وسارت عائدة لدار الحاج (ريَّان،)، فشاهدها الفلاحون وهي تسيروخلفها على الأرض يسيـر حبل رشـمـتـهــا وهو يسحب جـثــة (مَـلَـــك) الـمبــتـلــة وقد غطَّـى طينُ الأرض فستانَـها الـمـلـوَّن وشعرَها الأسود الطويل.

 

لـم يشهد الفلاحون حادثًا كهذا مِن قَـبـل فـي قريتهم، غطَّـت الصَّـدمةُ وجوههم؛ فالتفوا حول الـجاموسة لـيُـوقفوها، وتقدَّم أحدُهم وذبـحها إكرامًا لـ (مَـلَـــك) الَّتـي تـخيلوا بأسى ما شعرت به، ووزَّعوا لـحومها خارج القرية بعدما دفنوا الصغيرة.

غطوا على(مَـلَـــك) بالتراب، وحلَّ الليلُ على قريتها الَّتـي ظلَّ الـحزنُ يُـغطِّـيها، ولـم يعُد أبوها يشتـري حلوى الشَّعــرِ ثانية.