عبدالحليم قنديل يكتب: رهان «بوتين» ورهان الغرب 

الكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل
الكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل

ربما يكون من المبكر جدا، أن نحكم على النتائج النهائية للهجوم الأوكرانى المضاد ، وهو فى حقيقته هجوم غربى من وراء القناع الأوكرانى، وقد بدأ قبل نحو أسبوعين بحسب التوقيت الروسى ، فقد أعلن الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" أولا عن بدء الهجوم، وتلكأ الرئيس الأوكرانى "فولوديمير زيلينسكى" لبعض الوقت، ثم سلم بالرواية الروسية عن شن الهجوم، وكان اعترافه الأول فى حضور رئيس وزراء كندا "جاستن ترودو".  

وربما يكون ذلك هو الملمح الأول لما جرى ويجرى هذه المرة، فالروايات الروسية أسبق وأصدق، وكذا الدعاية الحربية الروسية، المدعومة بسيل عرم من "الفيديوهات" الحية ، وأغلبها يصور مشاهد ومذابح إفناء الدبابات الألمانية من طراز "ليوبارد ـ 2 " والمدرعات الأمريكية من طراز "برادلى"، ثم "فيديوهات" استيلاء الروس على الدبابات والمدرعات ، مع استعراض مقصود لدور الطائرات المسيرة الروسية الانتحارية "لانسيت ـ 3"، وقد أثبتت تفوقها الباهر على نظيرتها الأمريكية "سويتش بليد"، وفى البداية صمتت الدعاية الغربية، ثم راحت الاعترافات تتوالى، اعترفت أولا شركة "راين ميتال" المصنعة لدبابات "ليوبارد" فخر السلاح الألمانى، وتبعها وزير الدفاع الألمانى فى حوار مع صحيفة "بيلد"، الذى أكد أنه ليس بوسع ألمانيا التعويض عن الدبابات المدمرة، فيما انهارت أسهم شركة تصنيع السلاح الألمانى الكبرى فى البورصات، فهذه أول تجربة حربية واسعة فعلية لدبابات "ليوبارد ـ 2"، وقد نسفت الأساطير المروجة حول قدرتها ومزاياها اللامتناهية، وقدمت روسيا أعلى الأوسمة العسكرية لأبطال حرق الدبابات ، وبدا التصرف مفهوما بالقياس إلى التاريخ الروسى ـ الألمانى ، فروسيا تعتبرأن حربها الوطنية العظمى ، هى تلك التى دارت فى الحرب العالمية الثانية ضد "النازى" الألمانى "هتلر"، وقد شن حملة كبرى على روسيا "السوفيتية"، عرفت باسم عملية "بارباروسا" ، شارك بها نحو خمسة ملايين عسكرى ، واستمرت لسنوات، قتل فيها أكثر من 25 مليون روسى ، لكنها انتهت بنصر تاريخى للروس، ودخولهم الظافر إلى "برلين"، ومن هنا نفهم انفعالات الروس وحماستهم الفائقة لدحر الدبابات الألمانية اليوم، وإعراض الرئيس الروسى عن تلبية رغبة المستشار الألمانى بالتواصل هاتفيا معه، وقد جرى ذلك مع أوائل أيام الهجوم المضاد، فقد بدا "بوتين" فى مدار آخر هذه المرة، وتكررت مرات ظهوره المباشر للحديث عن ما يجرى ميدانيا، وفى ظهوره الأخير مع الصحفيين والمراسلين العسكريين، بدا واثقا مطمئنا، وأعلن أن خسائر الطرف المقابل عشرة أمثال الخسائر الروسية، ولم يخف نقاط ضعف بدت فى العمق الروسى، وبالذات فى المقاطعات الحدودية مع أوكرانيا، شجعت خصوم روسيا على توجيه ضربات لمدن روسية وصلت إلى شن هجمات بالطائرات المسيرة على العاصمة "موسكو" نفسها، ووعد بتحصين عاجل للدفاعات الجوية وغيرها، ولوح بإنشاء منطقة عازلة داخل أوكرانيا، وجعلها حاجز وقاية للداخل الروسى، ربما فى إشارة إلى ما أعلنه سابقا حاكم مقاطعة "بيلجورود" الروسية المحاذية لأوكرانيا ، التى تعرضت لأكثر ما يسميه الروس بالهجمات "التخريبية" الأوكرانية، ولا حل جذرى عند حاكم المقاطعة، إلا بالاستيلاء على كل أو أغلب مناطق مقاطعة "خاركيف" الأوكرانية المجاورة، وقد كانت القوات الروسية فيها بالفعل، قبل أن تنسحب تحت ضغط هجوم أوكرانى خاطف فى خريف 2022، برغم أن مقاطعة "خاركيف" ليست من المقاطعات الأربع، التى أعلنت روسيا ضمها رسميا أواخر سبتمبر 2022 ، لكنها تبدو ملاصقة متداخلة على نحو خطر مع حدود روسيا ، وتستخدم مع منطقة "سومى" كمنصات متقدمة لشن هجمات من جهة أوكرانيا ، تتنصل منها كييف فى العادة ، وتقول أن المهاجمين روس، وممن تسميهم فيلق "حرية روسيا" أو من "المتطوعين الروس"، المعادين لحكم "بوتين"، وقد ثبت مع صدامات ميدانية ، أن أغلب هؤلاء من البولنديين لا الروس، وقد ضبطت معهم مدرعات وأسلحة أمريكية، وهم بعض من أفواج الفيالق الأجنبية، التى تضم آلاف الجنود والخبراء من الأمريكيين والبريطانيين والبولنديين والجورجيين وسواهم ، ويعملون كالأوكران بتنسيق تام مع "القوات الخاصة" الأمريكية الموجودة، بدعوى حماية السفارة الأمريكية فى "كييف"، على نحو ما كشفت عنه الوثائق الأمريكية المسربة، وليس من أحد يخفى عمق التورط الغربى المباشر فى الصراع، ليس فقط بدلالة المئة مليار دولار، تكلفة السلاح المتدفق لأوكرانيا إلى اليوم، بل بتقديم خدمات الجنرالات فى التخطيط والمتابعة لعمليات الجيش الأوكرانى، ويجرى تغطية ذلك كالعادة، بوصف هؤلاء بأنهم عسكريون متقاعدون، إضافة لخدمات أجهزة المخابرات الغربية كلها ، وبالذات من المخابرات الأمريكية والبريطانية، وخدمات المعلومات المنقولة لحظيا من مئات الأقمار الصناعية المدنية والعسكرية المملوكة لدول الغرب، مع الاستعانة بدعم مالى عسكرى واقتصادى، جاوز 500 مليار دولار إلى الآن ، وطوفان أسلحة بالمجان من 54 دولة تحارب روسيا فى الميدان الأوكرانى، لا تضع سقوفا ولا خطوطا حمراء على نوعية الأسلحة، وإلى حد أن واشنطن التى قررت تزويد أوكرانيا بطائرات "إف ـ 16 "، وأضافت طائرات "إف ـ 18" تبرعت بها استراليا، وقررت أيضا أن تحذو حذو بريطانيا أخيرا ، وأن تزود الجيش الأوكرانى بقذائف اليورانيوم المنضب ، وأن تعجل بإرسالها مع العشرات من دبابات "أبرامز"، وأن تضيف إليها القنابل العنقودية المحرم استخدامها دوليا، وهو ما قد يفتح الباب لصدامات مدمرة أكثر ، وبالذات بعد إعلان "بوتين" الأخير، وتأكيده استعداد روسيا للرد بقذائف اليورانيوم المنضب، الذى سبق لأمريكا استخدامه فى حربى العراق وصربيا ، وبدت آثاره كارثية على الهواء والصحة ومضاعفة إصابات السرطان، وشهدنا مدى خطورته فى أوكرانيا نفسها ، حين قامت روسيا بقصف أكبر مخازن السلاح الغربى وقذائف اليورانيوم فى مدينة "خميلينتسكى" غرب أوكرانيا قبل أسابيع ، وكان الحريق نوويا بامتياز، وعلى صورة "المشروم" النارى االمرعب المعروف عن التفجيرات النووية ، وهو ما قد يعنى أن الحرب قد تنزلق إلى الحافة النووية ، وبالذات بعد إكمال تجهيزات نقل أسلحة نووية تكتيكية روسية إلى "بيلاروسيا" فى 8 يوليو المقبل ، بحسب ما أعلن عنه "بوتين" أخيرا .

وقد بدا تفجير سد "نوفاكاخوفكا" كعنوان مفزع لبدء الحرب الجديدة، وجرى تبادل الاتهامات بين روسيا وأوكرانيا، ومالت واشنطن كالعادة إلى اتهام روسيا، وإن بدت مصداقيتها فى الحضيض هذه المرة، خصوصا أن الاتهام الجديد تواقت مع فضح أكاذيب أقدم ، بدليل ما نشرته صحف أمريكية كبرى، اعتمادا على ما أسمته معلومات مخابرات ، كشفت تورط الجيش الأوكرانى فى الإعداد لتفجير خطى "نورد ستريم" العام الماضى ، بينما راحت "الميديا" الألمانية تنشر معلومات عن تورط "بولندا" بدورها، وهو ما نسف اتهام الغرب السابق لروسيا بتدبير التفجير، وأعطى مددا إضافيا لرواية روسيا الأولى، التى اتهمت مخابرات بريطانيا وأمريكا بالتورط فى العملية، وهو ذات ما ذهب إليه الصحفى الأمريكى الشهير "سيمور هيرش"، الذى نشر قبل شهور تحقيقا استقصائيا، انتهى إلى اتهام الرئيس الأمريكى "بايدن" شخصيا بإصدار أوامر تفجير "نورد ستريم"، وقد تذهب قصة تفجير "نوفاكاخوفكا" إلى المصير ذاته ، أو تظل سرا مستغلقا ، وإن كانت أدت حربيا إلى وضع ظاهر، أغرق الهجوم المضاد على جبهة "خيرسون" مؤقتا ، ونقل ثقل وخطوط الهجوم إلى جبهات "دونيتسك" و"لوجانسك" و"زاباروجيا" ، فيما ادعت الدوائر الغربية والأوكرانية تحقيق مكاسب ميدانية بدت محدودة ، لم تتعد استعادة السيطرة على عدد من القرى و"العزب" المهجورة، قالت عنها الدوائر الروسية ، أنها تقع فى "المنطقة الرمادية" بين خطوط الأوكران وخطوط دفاع الروس ، التى بدت هائلة التحصين "السوفيتى" هذه المرة، ومستوعبة لدروس "عملية خاركيف" أواخر العام الماضى، وعازمة على منع الهجوم المضاد من تحقيق هدف له مغزى ، وهو ما دفع الأوكران ودول الغرب إلى إعلان جديد، يتوقعون فيه زمنا مفتوحا للهجوم، قد يمتد إلى شهور ، حتى أواخر "أكتوبر" المقبل على الأقل ، ويهدف إلى قطع خط التواصل البرى الرئيسى بين روسيا وشبه جزيرة "القرم" ، ودفع روسيا إلى قبول بالتفاوض ، وهو ما لا يبدو مرجحا ، ربما بسبب الروح المعنوية والقتالية الأفضل للروس هذه المرة ، وبسبب رهان "بوتين" على كسب الحرب مهما تمدد زمنها، وهو لا يزال ينعتها بصفة "العملية العسكرية الخاصة" ، ويسعى لاستنزاف تدفقات السلاح الغربى ، ولنزع سلاح أوكرانيا بالتدريج ، على ما يبدو من مداخلاته العلنية الأخيرة ، وعقيدته أن كسر السلاح المعادى أسلم طريقة لكسب الأرض ، وتثبيت أقدام القوات الروسية ، بينما رهان الغرب ورهان "بايدن" فى الاتجاه العكسى بالضبط ، وربما يصح أن ننتظر ونرى ما يجرى فى قابل الأيام والشهور .
[email protected]