الكابتن أحمد متولى

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

كتب : حسين عبد الرحيم

هى وقفة تكررت كثيراً منذ خروجه من الخدمة وتكريمه من قبل الفريق عادل خليل، فى شرفة معتمة كالعادة ، هو لا يحب النور ولا الضوء كثيراً، تعود على أن صفاء الذهن لا يكتمل إلا فى الظلام.


نظر إلى يارا، التحفت فى سريرها بملاءة وردية، قبلة على جبينها أبكته، عاد للبار وأشعل شمعة واحدة، فتح الدرج الكبير ليخرج صوره القديمة وينظر إلى رفاق السلاح، ربيع البزاز ويسرى همام وحمودة النبع وعبد الرحيم جمال.

اقرأ ايضاً | العمياء


الخامس من يونيو 1967، مكتوبة بخط رقعة أسود، بقلم كوبيا، لم يعد يبكى مثلما كان الحال عقب خروجه وحفل التكريم بالدفرسوار وإهدائه حقيبة، لكنه لم يزل يسمع وشيشا، أزيز طائرات، يرى جثثا متفحمة، أعضاء تتطاير من جسد محروق، ربيع يطرش دما من فمه، ينزوى فى ركن بعيد، فى الخندق، أسفل الساتر الترابى، يسرى همام وقد اشتعل وجهه، احترق، على أثر مقذوف نارى، صار يزعق، يلعن القيادات وهو ينصت للاسلكى، فى راديو ترانزيستور، قلب فى محطات إذاعية عديدة، أتته الأخبار، الطائرات المقاتلة التى ضُربت فى مطار غرب القاهرة دون أن تتحرك.


بكى كثيرا هذه الليلة وأحس بخنقة فرفع وجهه للسماء، استطلع التخوم خلف أمواج البحر السوداء وهو المطل بعمق لبنايات تتراص من خلفه فى كامب شيزار، قرر النزول وقت أن اصطدم الغراب تائها فى زجاج النافذة المطلة على الكورنيش من بين فرجات ضيقة يخترقها متولى كل ليلة بنظره، يرمح بالبصيرة قبل البصر.


الآن فقط بدأ يستعيد توازنه، وقف وحده، قبل انتصاف الليل بدقائق خمسة، جاء مشياً من كامب شيزار، عينه لم تفارق عقارب ساعته الأوميجا وميناءها الغائم، لم تعد هناك أهمية لهذا الموبايل والذى يحمله منذ عشرة أعوام وقت أن اشتراه من سيدهم الجزار بالنبى دانيال، صار يحدق فى شاشة الموبايل ليرى الاسم جيدا، حسين الصومالى، يضحك فيبكى فيشرد وساقه اليسرى المبتورة حتى أعلى الركبة تستقر منزوية بثقل فى جراب جهازه الاصطناعى، ثابتة فوق رصيف الكورنيش بعدما عبر مكتبة الإسكندرية ليقف فى مواجهة الصخر العالى وقد ظل يراقب هياج الموج الصاخب منصتا لصوت البحر فى الشاطبى، دمعة مالحة فرت من عينه فخطا خطوة واحدة ليريح ساقه اليمنى السليمة.


يتذكر ما حدث بالأمس وقد أيقظه ابنه محمود لينبهه لصوت الموبايل فيقوم مذعورا خائفا ينظر للشاشة المنيرة فى النوكيا ويرى الاسم، يشرد، يتحسس طرقة الغرفة فى الظلام، كاد أن يسقط من فوق سريره وعندما لاحظه الابن جرى ليسنده فدفعه بيده فى عنف، استند على الحائط المشروخ، أنصت لصوت الماء الساقط فى الدلو الصفيح داخل حمامه الصغير، تجشأ، سعل، دعك عينه، فتح النافذة، فى الدور السابع، نظر إلى السحب بنجومها الزاهية وقد ملأت سماء الإسكندرية فى خريف حسبه الأخير فى عمره الذى يدنو من الخامسة والسبعين، كل ما حدث فى بيته ليلة أمس بات يجتره وهو واقف يرقب طيوراً غريبة تحط على صخور بعيدة فى الظلام، الكورنيش خال إلا من بعض الساهرين وفتيات يرمحن قريبا من بائع الذرة الذى انهمك فى شواية من الصاج، رمى فيها كيسا من الفحم، عيناه الحمراوان تبرزان غضبا ما، شرر يوجه سهام غضبه لمجهول، لآت لا ريب، هو يحس ومنذ بداية العام، منذ يناير 2020، أن الأيام انقضت وسيطوى العمر، يحس أن موته صار قريبا وأن هذه الليلة قد حددها القدر، وأن الرب قد صالحه أخيرا برؤية حسين الصومالى الذى لم يعرف عنه شيئا منذ خروجه أو هروبه من بورسعيد فى العام ١٩٨٩، زفر وبدأ فى الاقتراب من بائع الذرة مخاطبا إياه..


كوز ساخن بإيدك يا رمزى.
رفع رمزى رأسه غير مصدق وهو يتأمل ملامح الكابتن أحمد متولى بطل حرب الاستنزاف، بكى رمزى فتمدد ذراع متولى وقد ألزمه بمتابعة عمله بحركة من يده بكفه الغليظ وأصابعه الطويلة بعدما سقطت مروحة الريش من يده.


صمت رمزى وبات يتذكر هو الآخر وعينه ترقب متولى وقد شرد من جديد يتأمل فتاة شقراء خطت ناحية السياج الصخرى، لم ينبس بحرف حتى عاد متولى يربت على كتفه بحنو وقد فتح أزرار قميصه لهواء الخريف، أطل على ساعته من جديد كانت العقارب تقترب من الثانية عشر والنصف ليقفز بقدم واحدة وقت أن التفتت الصبايا يرقبنه وهو شبه طائر، بساق واحدة، جلس على الكورنيش وظهره للمارة ليترك رمزى وقد برقت عيناه وزاد احمرارهما وهو ينفخ النار ويهذى بكلمات غير مسموعة، طالت نظراته فى البعيد، فقال رمزى: 


نبهنى عندما تنتهى حتى أطلب لك الشاى من ماندو.


 فعاجله متولى:
حاجة ساقعة، جوفى نار.
كانت طيور السمان قد حطت على صخور الشاطبى فى ظلام البحر، الأمواج تتعالى ويتجلى الزبد ويبيض الماء فوارا ضاربا السواتر بعنف وقد ظهر أحمد متولى وهو يتأمل الصيادين أسفل قدمه اليسرى الذى تدلت هامدة.


يحاول ثنى يمناه تحت مؤخرته، أشعل سيجارة ثانية وبدأ فى النظر، عينه اليمنى الثاقبة تلهث، نور بصيرة فذة تتفحص الأجواء ووجوه العابرات، من مجلسه تطلع يجوب الكورنيش حتى قلعة قايتباى، استدار فجأة يسأل رمزى:

 أتذكر المنارة يا رمزى؟!
 رمزى ينظر إليه فى تعجب ويرد باقتضاب:
لسه فاكر يا بطل
يضحك ويرد:
بطل؟ من البطل، أنت البطل يا رموز، نحن جيل الهزيمة حتى بعد النصر.
 ويعود لصفحة البحر وقد هوت دموعه مرددا فى نفسه دون صوت:
بطل!
 يضحك فى جنون ساخرا ويطول الطنين والزن فى أذنه، يجتر:
انتبه يا بطل.


 تحصن بالدشمة يا باش شاويش، ثبت خوذتك، ازحف، ازحف، اضرب، اضرب، احتجب، اعط فرصة لمرور ربيع ويسرى وحمودة وجمعة الناغى من أسفل الساتر الترابى، يضحك متولى ويبكى ويجتر ويدعك عينه فينظر إليه المارة فى دهشة وخوف وقد حدقوا بعينيه الغارقة فى دموع لتزداد حيرتهم مع ارتفاع صوت الضحك بهيستيرية واحمرار عينه وقت أن برزت ملامحه، وجه أسمر مستدير وأسنان بيضاء وشعر أكرت مصبوغ بحنة بنية فاقعة، انتبه وقت توقف البلوكامين، نزل ضابط برتبة عميد، سار بمهل، اقترب من أحمد متولى، ألقى التحية وعقب متولى:
-مساء الفل يا كومندان، لك أى طلب يابطل؟
 نظر أحمد متولى فى حنو:
تسلم يا كومندان، قلت أمشى على الكورنيش، أنت تعرف عشقى للخريف وولعى برؤية السمان فى سماء الظلام.


ركب سيارته السوداء وانطلق العسكرى يقود بخفة قاصدا محطة الرمل، عاود متولى النظر فى شاشة موبايله وقال لرمزى:
هل تذكر حسين الصومالى يا رمزى، ألم تره هنا فى الشهور الماضية؟!


ينظر رمزى فى دهشة، لم ينطق، صار مذهولا وقد نكس رأسه، حدق فى كيزان الذرة، قفز من فوق سور الكورنيش شبه طائر، فرد يمناه فى الهواء بمساواة صدره ليدق ساقه اليسرى فى ثبات أمام الشواية الصاج، رمى بزجاجة البيبسى فارغة بجانب سور الكورنيش، ظل يوجه حديثه لرمزى من جديد:
حاجة وسخة يا شقيق.