المُتلفِّتون

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

صبحى شحاتة

منذ قديم الزمان، حتى هذا العصر والأوان، اعتادت جماعة من الشباب الصيّع العواطلية الهاربين من المدارس والمصانع والورش، وزوجات أبيهم، وأبيهم، وأمهم، وحبيباتهم الخائنات، ومن الدنيا وما فيها. الوقوف على ناصية شارعهم، لا يفعلون شيئا إلا التلفت ذات اليمين وذات اليسار على خلق الله. 

والشارع ضيق مخنوق، أشبه بسرداب قبو، ومدخله أشبه بشق الثعبان الأقرع، الذي يعيش فى ترب المغضوب عليهم والضالين، الداخل إليه مفقود، والخارج منه مولود. 

لا يفعلون شيئا أبدا إلا التلفت إلى الرائح والغادى، حتى تبدو رؤوسهم المتلفتة يمينا وشمالا بانتظام آلى، كأنها بندول الساعة. 

وأحيانا بدافع الملل ينتقدون الناس، فهذا قصير، أما هذا فسمين، وهذه حلوة، أما تلك فوحشة، ويهتف واحد منهم فجأة، وهو يدخن سيجارة من سجائره الفرط، دون التوقف عن التلفت الآلى:

اللا قوللى يالا... مش دى بنت فلان الفلانى برده.
لا يا عم الحلو... دى مش بنت فلان الفلانى أبدا. دى اسم الله عليك، بنت علان العلانى.

فيرد آخر بتعالم:
لا هذا ولا ذاك... البنت بريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب. فلا هى بنت فلان الفلانى، ولا بنت علان العلانى، وإنما هي في الحقيقة بنت ترتان الترترانى. 

ويبحلقون، محركين رقابهم دون توقف طيلة الوقت، ذات اليمين وذات الشمال، حتى أنهم أطلقوا على أنفسهم جماعة المتلفتين ذات اليمين وذات الشمال، استجابة مخلصة لوصية أحد قدمائهم قبل موته منتحرا، وأن هذا التلفت عملهم على الناصية، ووظيفتهم التى ورثوها أبا عن جد، واختاروها أيضا بعد دراسة وفحص وتمحيص وتأمل للحال والمآل، لأن الأيام الخراء فائدتها النوم، وما هذا التلفت الآلى سوى نوم.

وهم مع ذلك أو بسببه، لم يعدموا وجود العباقرة بينهم، رغم غياب المؤسسين، إما بالموت انتحارا، أو بالضرب فى بلاد الله لخلق الله، بلاد تشيلهم وبلاد تحطهم، منهم من صار حرامى هجَّام. 

ومنهم من جُنَّ، أو شُرِّد، فهو ينام كيفما اتفق فى الطرقات بأسمال بالية عفنة، يأكل إن أكل من الزبالة، إن لم يلقِ إليه المارة بما فيه النصيب، ومنهم من عمل فى فرق الأفراح الشعبية، يدق على الطبلة والطار وينفخ فى المزمار، ويغنى الأغانى السيارة والدوارة، والمنحرفة، والمقلوبة، والمحطوطة جنب الحيط، عليها قرش تعريفة، ومنهم من ركب البسكلته، أو الموتوسيكل، وصار عامل دليفرى ما شاء الله، يجرى طيلة النهار بها هنا وهناك موصلا الطلبات، ومن صار سائق تكتوك، يمخر عباب الشقوق والأزقة المحفرة الخربة، مطلقا صوت المسجلَ قنابل مفزعة، تتفجر أينما كان وحلّ، ومنهم من عمل في مسح الأحذية، وفى لم الكارتة من سائقى الميكروباص، وفى مجلس المدينة كنّاسًا، ومنهم اللىّ ربنا كرمه وتزوج من عجوز فرفوشة، عندها معاش كبير من زوجها الميت. 

ومنهم من تفتحت له أبواب السماء من وسع، وصار إرهابيا قد الدنيا، وسافر منضما إلى دولة الدين الجديد الحق الحقيق، ينعم بالمال والقوة، ويتلذذ ببنات جهاد النكاح، اللواتى هن الحور العين الأرضيات، جئن لهم كده من أنفسهن ومن غير غصبانية،  لله فى  لله، ومن كل فج عميق، دى أرزاق ياعم الحلو، واللى أعطاه يعطينا. 

بينما بقت الأكثرية على عهدها وفى مكانها على الناصية.

>>>
فما أن يجتمعوا من صباحية ربنا، ويكتمل عددهم حتى يبدأوا في التلفّت على خلق الله، موجهين رؤوسهم تارة إلى جهة اليمين، وأخرى إلى جهة اليسار، دون توقف، معتبرين هذا ضربا من اليقظة إلى العالم حولهم، فهم لا يريدون أن يمر شىء أمام عيونهم، دون أن يرونه. 

حتى أن واحدا من عباقرتهم أقترح شراء كراسة يدوّن فيها اسم الداخل إلى شارعهم والخارج منه، ومستواه الاجتماعى، وهوايته، وعدد أطفاله وكل شىء عنه، لكنهم رفضوا ذلك، وقالوا:

إنهم يعرفون كل واحد وواحدة وطفل وشيخ وعجوز، وكل كبيرة وصغيرة فى الشارع، حتى الحشرات والذباب والكلاب والقطط، وإن الشارع برمته كراسة مفتوحة لهم أصلا. فوُئِدت الفكرة فى مهدها. 

ويواصلون تلفتهم الآلى ذات اليمين وذات اليسار، ساعات طويلة من النهار، بل طيلة النهار، وجزءًا غير قليل من الليل أيضا، حتى يتأكدوا أن كل من فى الشارع طيبا كان أو شريرا، معفنًا كان أو نظيفا، متكبرًا كان أو ذليلا... انخمد ونام، ليس فى شارعهم البائس فحسب، وإنما فى المنطقة كلها أيضا.

>>>
في البداية كانوا يتلفتون يمينًا وشمالًا دون سبب واضح، اللهم إلا بحكم الوراثة والتقليد، إن مر أحد أمامهم، أو لم يمر، حتى صار التلفت فى ذاته هويّة لهم، واستمرارًا لمجد الأجيال السابقة عليهم، ومن يتوقف منهم عن التلفت لأى سبب، يصير نشاذا، فينفرون منه، ويطردونه من على الناصية، فكنت تراهم طيلة الوقت يرمون برؤوسهم ذات اليمين تارة، وذات اليسار تارة أخرى، دون كلل أو ملل. 

لكنَّ واحدًا منهم أوجعته رقبته فجأة، وشعر بالدوخة، فقال بضيق دون أن يتوقف عن التلفت:
إن هذا التلفت جنون، لا يليق.. كفوا عنه. 
فغضبوا منه أيما غضب ونهروه قائلين:
إننا بالتلفت نعرف ما يحيط بنا، ونغادر الغفلة. 

فقال غاضبا:
لقد أوجعتنى رقبتى. ألا ترون. 

قال واحد منهم وكان حكيما:
إن التلفت فى حد ذاته نوع مهم من أنواع الرياضة، إنه تحريك للرأس ذات اليمين وذات الشمال، وإلا أصيبت الرقبة بالجمود والتحجر، وهذا يعنى أن رقبتك تتقوى، فاستمر، تلفت يا حلو، تلفت. 

فقال الموجوع الرقبة مغتاظا من حكمة الحكيم:
إذا كان التلفت رياضة، فلا بد من وجود رياضيين وملعب، وليس التلفت لمجرد التلفت أبدًا، فلكل شىء غاية يذهب إليها، وإلا صارت كل أفعالنا عبثا، فحتى الفضول ينبغى أن يتجه إلى شىء محدد، إن رقبتى ستنكسر، إن زوجة أبى أرحم من هذا. ارحمونى. 

فقام لأول مرة فى تاريخهم الطويل اثنان منهم متطوعيْن، وقف كل واحد منهما فى جهة، وعلى مسافة من الآخر، راح الأول يلقى إلى الثاني بحجر كبير مسنن خطر، لو سقط أرضا لسحق من يحط عليه، فيتلقاه الثانى ويعيده إليه رميا. 

وهكذا من فى الجهة اليمنى، يلقى بالحجر إلى من فى الجهة اليسرى، والعكس صحيح، فصارت جماعة المتلفتين تتلفت الآن إلى شىء محدد، أى تتلفت إلى الجهتين بانتظام، متابعة حركة الحجر المترددة بين اللاعبين.

وزاد هذا من إفزاع المارة الداخلين إلى الشارع، فكانت تتعالى صرخات النساء وولولة الأطفال، وشتائم وسباب الرجال، لأنهم ظنوا اللاعبين يتعاركان بالطوب، وأن الشباب لا يجدون شيئا يصرفون فيه مخزون طاقتهم إلا فى العراك الحامى الدامى. 

وهكذا اضطر الشباب العاقل إلى استبدال كرة صغيرة نطاطة بالحجر الفظيع، يضربها اللاعبان كل بدوره بمضربين، ثم أضيفت شبكة بينهما، فكانت هذه أول مباراة للتنس تعقد فى الحي الشعبى على الإطلاق، بفضل وجع بسيط فى الرقبة.

>>>
لم تتوقف المباريات بعد ذلك أبدًا، حيث يتابع الشباب الواقفون على الناصية، الكرة المترددة يمينا وشمالا بين اللاعبين، فصاروا بهذا يرضون فضولهم فى متابعة ما يدور حولهم، ويستفيدون في الوقت ذاته من ليونة وقوة رقابهم المتحركة ذات اليمين وذات الشمال، دون أن يتهمهم أحد بالجنون والعبث. 

لذلك كرّموا صاحبهم الموجوع الرقبة، وأطلقوا اسمه على اللعبة، فبدلا من لعبة التنس صارت: (لعبة أبى رقبة). 

وصنعوا له تمثالا جميلا، من عصا عليها كوز صفيح، رسمت له عينان وأنف وفم بسام، ووضعوا التمثال فى مقدمة الملعب أمام باب الشارع، فيما يقول كل حين الحكماء منهم بفخر:

رب ضارة نافعة.
فوجع الرقبة كان سببا غير مباشر لأن يهتدوا إلى جعل فعلهم المتوارث، فعلا عصريا، ورياضة وقورة محترمة، فصار عبثهم مستساغًا ومقبولا فى نظرهم. 

واستمرت اللعبة واتسعت رويدا رويدا فى الشارع، وزاد عدد الجماهير الواقفة على جانبى الشارع سادة دكاكين البقالة بأجسادهم المتزاحمة. 

فحدثت اشتباكات بين أصحاب البقالة والجمهور، وعلت الظيطة والظمبليطة، ورشّ الماء الوسخ على الجمهور من أعلى، وخرج  البقالون بالشوم والسنج يفضون التجمهر، الذى كلما انفض عاد، فكثرت البلاغات إلى الشرطة، فكانت تأتي الكبسة تلو الأخرى، فلا تجد أحدا ينتظرها، ثم يعود الجميع بعدما تنصرف عربة الشرطة السوداء، وأمناؤها الغلاظ الأشداء كارهو النواصى ومن عليها. 

فاستسلم البقالون وسمحوا بوقوف الجمهور بعدما فوجئوا بأنه نافعٌ لهم يزيد من رزقهم، وجاءت بعض النسوة الفلاحات من القرى البعيدة بأوانى الجبنة والفطير المشلتت والبيض البلدى، وجلسن بالقرب من الجمهور على الناصية، وداخل الشارع، فصار الشارع سوقا تجارية، يغص بالبضائع، فالباعة أتوا بعرباتهم الكاروا يبيعون عليها الطماطم والخضار والفاكهة، ولعب الأطفال، والإكسسوار الحريمى: الغوايش والحلقان وغيرها... وكل هذا وغيره، كان يدور حول لعبة «أبى رقبة»، التى تزدهر كل لحظة. 

وجماعة المتلفتين ذات اليمين وذات الشمال تمارس هويتها وعملها وكينونتها فى التلفت طيلة الوقت إلى الكرة الطائرة إلى جهة اليمين تارة، وجهة اليسار أخرى، فلم يعد أحد الآن فى الكون بقادر على فعل شىء ضدهم، وأقيمت الرهانات على اللاعبين، وانبثق منظمو الجمهور، ومحصلو الإتاوة من الباعة، لصالح جماعة المتلفتين، اللى الرزق جاء على قدومهم. 

وباتت الناصية شديدة الزحام، والخلط والتخليط، ومكمنا لشقط البنات، والتحرّش، والسرقة، ومدخل الشارع الذى كان شق الثعبان الأقرع، هرب ثعبانه إلى غير رجعة، تحول الآن إلى خرم إبرة. 

وصارت جماعة المتلفتين تسيطر على كل شىء في الناصية والشارع، بل ويرسلون خبراءً منهم إلى الشوارع الأخرى المجاورة والبعيدة، والأبعد، فالأبعد، ليعمموا خبراتهم فى التلفت المضبوط، الأصلى، اللى على أبوه..