النرجسية تسيطر على الأغانى

محمد رمضان
محمد رمضان

ريزان العرباوي

اختلف مفهوم الغناء لدى البعض, فتحول من أغاني الغزل والحب والهجر والفراق وانتقاء الكلام المقفى البسيط، إلى تيمة الصراع اللفظي وأخذ الغناء منحى آخر بكلمات تشع بالتفاخر والعظمة وتمجيد الذات أو مايطلق عليها بـالنرجسية, وهي ليست نرجسية الحبيب تجاه من يحب، بل نرجسية المطرب نفسه, الذي اتخذ من أغانيه متنفس للتفاخر بإنجازاته الوهمية, على غرار محمد رمضان ومعظم أغاني المهرجانات والراب.. فما تفسير تلك الظاهرة, ومدى تأثيرها على الذوق العام؟, وأسباب انتشارها ورواجها؟.. هذا ما تجيب عنه السطور التالية.. 

اشتهر محمد رمضان بتقديم هذه التيمة عندما غنى “نمبر وان”، وبالرغم من قوة صوت أحمد سعد وتميزه، إلا أنه لجأ لهذه التيمة في أغنية “وسع وسع”، وفاجأت اللبنانية نانسي عجرم الجمهور بأغنية “أنا اسمى لوحدو تاريخ”، ورغم أنها أغنية دعائية لفيلم “شوجر دادي”, إلا أن البعض أعتبرها أغنية نرجسية, خاصة أنها استخدمت فيها الجملة الشهيرة لمحمد رمضان “ثقة في الله نجاح”.

ونجد هذه التيمة منتشرة وبقوة بين مؤدي أغاني المهرجانات والراب والتراب, ويعتبر الرابر أبيوسف من أكثر مستخدمي كلمات تعظيم الذات والتفاخر، ويظهر ذلك من خلال أغانيه ومنها “نازل تقطيع فيكم أنا مشرط”, “بقيت نجم كبير أنا هضبة”، و”أنا مش هقدر حد”، والتي تدور في إطار مهاجمة الساحة والتفاخر بالذات، كما غنى ويجز “ما تسعناش إحنا الأتنين.. أنتم اشلاء بعمل بوفتيك”، وغنى مروان بابلو “متقولش راب أنا الراب حارق ناس كتير كدا نجاحي”، بينما من المفارقات نجد بعض المهرجانات التي أنتقدت الغرور والعظمة، منها مهرجان “مرض العظمة” لحمو الطيخا وسعيد المعبدي.

هلاوس سمعية

وصف الشاعر بخيت بيومي تلك الحالة الغنائية التي تعبر عن النرجسية وتعظيم الذات, بـ”الهلاوس السمعية”, ويقول: “مفهوم الغناء بعيد كل البعد عن كل ما يحدث على الساحة الفنية, والذي يمكن أن يطلق عليه هلاوس وفقاعات سريعا ما يتلاشى تأثيرها, ولجوء البعض لمثل هذه النوعية من الأغاني يرجع  إلى الإفلاس الفني  وإنعدام الأفكار والابتكار, الهدف منها فقط الانتشار والتواجد، وللأسف هم لا يعلمون مدى الضرر الذي قد يلحق بهم, فهو بمثابة السراب الذي يرى من خلاله الشهرة وتصدر (التريند)، لكن عندما يقترب أكثر لا يجد أي أثر, فهي من الظواهر الغنائية التي ظهرت، لكنها ستنتهي سريعا, هذا بخلاف الثوابت الفنية الخالدة والقادرة على الإستمرار، مثل أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمدعبدالوهاب”.

ويضيف بيومي: “يجب على المسئولين الانتباه لمدى خطورة تلك الظواهر خاصة على الشباب, وأقترح على وزير الثقافة وكل مسئول ضرورة التصدي لكل ما يخل أو يضر بالذوق العام، للحفاظ على الغناء الذي يهدف إلى تهذيب الروح والوجدان، فلا يجب أن يبتعد عن هذا المفهوم, ولن يحدث ذلك إلا من خلال محاسبة ومعاقبة مرتكبي هذه الوقاحات بتهمة إفساد الذوق العام، لما قد يسببه من ضرر وتشويه للثقافة والتذوق الفنيـ خاصة لدى النشء الجديد، فهم المستقبل, وجيل الشباب معذور، فلم يجد الإعلام الهادف الذي يوجه ويرشد, وفي الماضي كانت تهتم الإذاعة بإنتاج أغاني ذات مضمون وألحان وأشعار راقية, وكانت الأغنية تمر على لجان لتقييم الألحان والكلمات واختبارها من قبل لجنة الاستماع في الإذاعة لاختيار المناسب وإجازته قبل بث الأغاني, أما الآن يتم التلحين والغناء والبث دون إتباع لأي معايير أو محاسبة للمخالفين، فهي المهنة الوحيدة التي تمتهندوناىمصوغاتتعين, فأصبح الغناء منهة لمن لا مهنة له”.

ويتابع: “يعبر الغناء عن الهوية والثقافة المجتمعية, ونجد هذه الظاهرة منتشرة بكثرة بين مطربي المهرجانات والراب، لأنهم يبحثون عن كل مختلف وشاذ لتعويض بعض النقص والرغبة في إثبات تواجدهم على الساحة, وهي ظواهر لها وقت معين وستنتهي، ومما لا شك فيه إنها إنعكاس لأوضاع اجتماعية ومادية معينة، فالبيئة لها تأثير واسع المدى في تشكيل هوية وشخصية المطرب، فهي تفرض ألوان معينة من الغناء, والفن ترجمة للمشاعر والعواطف بذوق ورقي، وهناك مقولة شهيرة تقول: (إذا أردت أن تعرف شعبا استمع إلى موسيقاه, فالموسيقى وجدان), لكن ما يحدث هو مجرد هلاوس سمعية وتخبط دون هوية، وللأسف وصلنا للقاع، فأتخذ الغناء منحنى النرجسية وتمجيد للذات، وأصبح المطرب يغني لنفسه لتعظيم ذاته، تاركا أشعار الغزل والحب.. فلا تلوموا هذا الجيل, وليس العيب على من يغني، فالمسؤلية الأولى لانتشار هذا الوباء تلقي على عاتق المسئولين”.

ويضيف: “عند تقديم أغنية لفيلم أو مسلسل، فـ(الاختيار) لابد وأن يتطابق مع مضمون العمل ليعبر عنه، ويأتي التوظيف لخدمة موقف درامي معين، لكن الوضع أختلف وأصبحت الأغاني المختارة لخدمة المطرب نفسه، بغض النظر عن متطالبات الدراما”.

الشهرة الزائفة

ويقول الموسيقارصلاح الشرنوبي: “هذه الأغاني دخيلة علينا، لم تكن موجودة في السابق، وهي انعكاس للوضع الاجتماعي والمادي والشهرة السهلة السريعة الزائفة, ومن المستحيل أن تدخل الكلمات المتعجرفة تلك ضمن مفهوم الأغنية المتعارف عليه, من الملاحظ جدا غياب الرومانسية من معظم الأغاني بعيدا عن أغاني الهجر والفراق, وأرى أنها محاولات للاستغناء وإعلان الاستقلالية سواء من الرجل أو المرأة, ومن الواضح أنه من العوامل الأساسية لهذه الظاهرة, تغيير المفاهيم لدي الجنسين.. وأعني مفاهيم الحب والتعبير عن المشاعر, فهي عوامل ترجمتها طبيعة العصر والثقافات الدخيلة نتيجة للإنفتاح على العالم والإطلاع على الثقافة الغربية ومحاولات، للبحث عن بدائل لإثبات الرجولة عند الرجال وإثبات الاستقلالية لدى النساء”.

ويضيف: “لأن المسألة عرض وطلب، فالمسئولية تقع على عاتق الجميع من أول المطرب عديم الضمير، ثم المستمع الذي ساهم في رواجها وانتشارها، وصولا إلى المسئولين وعدم محاسبتهم للمخالفين, وأن استمر الوضع على هذا المنوال ستتفاقم النرجسية وتتصاعد مع الأجيال الجديدة، لتصبح سمة أساسية، كالوباء الذي يصعب مواجهته وعلاجه”.

صراع نفسى

يرى الناقد الموسيقي محمد دياب، أن اختلاف الذوق الجمالي مسألة قديمة نجدها في كل العصور, وارتفاع سقف الحريات خلق مجال شاسع للظواهر الشاذة الدخيلة, ويقول: “تعكس تلك الأغاني شخصية مؤديها، والتي تتميز بعشق الظهور والحب الزائد للنفس, وللأسف هناك تدني في مستوى اختيار الكلمات وتردديها، دون فهم ووعي, وهو أمر في منتهى الخطورة, فالخاطب في مثل هذه النوعية من الأغاني موجه للمجتمع, فهو يقول: (أنا ومن بعدي الطوفان.. وأنا أعظم واحد في الكون), والغريب أنها تنجح وتلقى رواج وانتشار، بالرغم من أنها تحدي للمجتمع، حتى أنها أصبحت ضمن قائمة الأغاني الأساسية في أفراح طبقات المجتمع الراقي، وهذا التقبل دفع بعض المطربين إلى المحاكاة والتقليد رغبة في التواجد والإستمرار، بحجة تغيير اللون الغنائي ومواكبة مفردات العصر الحديث، إلا أنه في حقيقة الأمر تغيير للأسوأ”.

ويضيف دياب: “هذا التقبل من قبل المستمع ونجاح هذه التيمة وتصدرها لـ(التريند), قد يرجع لحاجة ماسة لكل فرد بأن يشعر بقيمة ذاته, نتيجة لصراع نفسي انعكس على السوشيال ميديا، فيتحقق للشخص نشوة خاصة، وهو ما يترجمه مفهوم النرجسية, فتلك الأغاني تسير في مضمار الأجواء النفسية التي يبحث عنها البعض، ويرغب في تحقيقها، خاصة لدى فئة الشباب والمراهقين, كما أن أغاني (التراب) من الصعب فهم كلماتها بسهولة، لذلك يتم كتابة الكلمات أسفل كل أغنية مصورة لسهولة عملية الفهم, وهذه النقطة مثيرة جدا بالنسبة للمراهقين، أن يكون لديهم أغانيهم الخاصة بشفرات تشعرهم بالخصوصية والتميز”.

ووصف دياب هذا الغناء بالعشوائي مفسرا ذلك بالقول: “نجد هذه التيمة منتشرة في أغاني المهرجانات ومصدرها المناطق العشوائية، فهو غناء في الأصل عشوائي يعبر عن الأوساط الشعبية، حتى يتغلب على شعور التهميش وإنعدام القيمة في الحياة, فيلجأ لهذه النمط من الأغاني كنوع من التنفيس وتعويض نقص داخلي, نفس الأمر ينطبق على مؤدي (الراب) و(التراب), فالشهرة السريعة دون أدنى مجهود بسبب أغنية قدمها بشكل عشوائي وانتشارها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وحصدها ملايين من المتابعين، كل ذلك يخلق بداخلهم الغرور الذي يقود إلى النرجسية والتفاخر”.

ويختتم كلامه قائلا: “لا أستبعد تمرير رسائل ضمنية من خلال تلك الأغاني، فهي في الأصل تستهدف الشباب والمراهقين، مما يؤثر على الذوق العام, وعندما يستمع الأطفال والشباب لأغاني مستواها الموسيقي والشعري في منتهى التدني والإسفاف، بالتأكيد سينعكس على ثقافته وتذوقه الفني، وعندما يكبر سيكون إمتداد لهذا الإسفاف، لأنه نشأ عليه, مما ينذر بخطر كبير، فماذا ننتظر من جيل تربى على حب الذات وتعظيممها, كما أنها قد تسبب عزلة ما بين الفرد والمجتمع عندما يشعر أنه بالفعل الأرقى والأفضل والأقوى فتعزز من الروح العدائية تجاه المجتمع والمحيط كله”.

اقرأ أيضًا : هيثم سعيد: «بعلنها» عودة للأغاني الرومانسية


 

 

 

;