يوميات الأخبار

حوارات حول الحوار الوطنى

علاء عبد الهادى
علاء عبد الهادى

«لو دققت فى الأمر سوف تجد أن الجوهر الحقيقى للحوار هو أن يكون مرتكزه وجوهره ولبه ثقافيًا، لأن الثقافة تعنى قبول الآخر»

أنزعج أيما انزعاج عندما يتراجع الاهتمام الجمعى بالثقافة بمفهومها الأشمل، وأدرك أن ثمة شيئا خطأ، وأن البوصلة إما أنها تسير فى الاتجاه الخاطئ أو أن الإحداثيات التى تم ضبطها على أساسها غير سليمة أو غير دقيقة ويتعاظم هذا القلق بداخلى عندما يتم التعامل مع الشأن الثقافى باعتباره شيئا قابلا للتأجيل، لأن هناك ما هو أهم منه وأكثر إلحاحا.


الحوار الوطنى، عندما دعا إليه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى احتفالية إفطار الأسرة المصرية رمضان قبل الماضى، لم يأت هكذا عفو الخاطر، أو من قبيل ألاعيب السياسة التى قد يلجأ إليها بعض الساسة أو رؤساء الدول لتخدير شعوبهم، فهو -أى الرئيس السيسى- لا يعرف، منذ عرفناه، سوى الشرف فى كل تعاملاته، ولكنه -أى الحوار- جاء لضرورة ارتآها الرئيس وهو يستكمل إرساء دعائم الجمهورية الجديدة التى يجب أن يكون بناء الإنسان فى القلب منها، لأن الإنسان هو الهدف والمبتغى، لذلك كانت رؤيته: أننا ونحن نبنى ونعمر ونعزز ما نفعل بأحدث تقنيات العصر، يجب أن يكون هناك ما يماثل هذه النقلة النوعية فى التشييد والبناء والتجهيزات على مستوى البشر، وما أعظم أن يتم ذلك من خلال حوار يتبادل فيه أهل البيت أولويات وفقه وفلسفة المرحلة، ومرتكزات الجمهورية الجديدة، ولكن وبسبب دقة الظروف الاقتصادية التى لا تمر بها مصر وحدها، انصب الاهتمام على المشكلات الاقتصادية، والسياسية، لارتباط كلتيهما ببعضهما البعض، وللأسف لم يكن هناك حماس لأن يكون هناك فى البداية محور للثقافة، وكأنها لا تحظى بالأهمية والضرورة الملحة.


ولو دققت فى الأمر سوف تجد أن الجوهر الحقيقى للحوار هو أن يكون مرتكزه وجوهره ولبه ثقافيًا، لأن الثقافة تعنى قبول الآخر.. الآخر عقيدة وفكرًا ورؤية، فلو قدمنا الثقافة سوف تكون بمثابة العصا السحرية التى تلمس جميع الفرقاء، فقد يختلفون فى الطروحات، وقد تكون لدى بعضهم أولويات تختلف عن الآخرين، ولكن نبقى جميعا على مائدة ثقافية وفكرية واحدة.. سر النجاح فى أى حوار أن يستمع المتحاورن إلى بعضهم البعض، ويعقلون أمورهم، ويعيدون حساباتهم، وهذا هو جوهر الخلاف بين دول متقدمة ومتحضرة، وأخرى متخلفة، وان استطال فيها البنيان، وكان لديها الأحدث والأكبر وكل أفعل تفضيل.
مطلوب من المتحاورين فى «الحوار الوطنى» أن يتحلوا بالأمل، وينقلوه إلى المواطنين الذين يأملون منهم الخير، فلا يخيبون رجاءهم، ويختطفون الحوار الى أشياء قزمية ليست جوهرية، وليس مكانها الحوار.. تعالوا نقول للمصريين إننا جميعا أبناء هذا الوطن، مهما اختلفت عقائدنا، ولون بشرتنا، والمنطقة التى جئنا منها: بدوا كانت أم حضرا فنحن جميعا نفتخر بهذا البلد ونتطهر بترابه، وأننا ونحن نتحلى بالعلم والفضيلة، وثقافة قبول الآخر سنخرج من هذا الحوار بكل ما هو ترجمة حقيقية لحلم كل مصرى شريف لبلده.
استوقفنى أن المحور الثقافى سوف يتناول الهوية الوطنية فى صدارة جلساته، وعلى أهمية الملف وخطورته، باعتباره أمنا قوميا، إلا أن هذا أصبح من الثوابت التى رسخ وأسس لها الدستور، ومنذ عدة أعوام جعلت الدولة المصرية من كتاب الراحل المصرى العظيم المفكر ميلاد حنا «أعمدة الشخصية المصرية» منهاج عمل، فلماذا النكوص، والعودة إلى الملف من جديد لكى نعيد طرح ما طُرح وتمت مناقشته وباستفاضة، العذر الوحيد أن ينصب الحوار حول مزيد من الإجراءات على الأرض لتعزيز ذلك، أما الاستراتيجية فهى واضحة وراسخة وثابتة ومنذ سنوات.


التعليم والهوية
الهوية المصرية موجودة ومتجذرة فى كل واحد فينا فى لسانه، وفى المفردات التى يستخدمها، وفى عاميته التى يعود كثير منها إلى أيام الفراعنة، وهذه الهوية متأصلة فى سلوكياته، أى نعم هددها التعليم الذى أصبح هو نفسه فاقدا للهوية: تعليم أمريكى وإنجليزى وفرنسى وألمانى وتحقير من شأن التعليم المصرى وتقزيم للغة العربية، لذلك أنا أتفق مع ما ذهب إليه المفكر الكبير محمد سلماوى من أن الهوية لا تخلق، فهى بالفعل موجودة، الحديث يجب أن ينصب فقط حول الوعى بها، والوعى قد يكون هو لب القضية، وبيت القصيد من الحوار، وبالفعل وكما نبه الكاتب الكبير يوسف القعيد فى كلمته فالوعى بالهوية فى خطر شديد وبالذات مع ارتفاع نسب الأمية لذلك فالمجتمعون إذا توصلوا إلى صيغة تعزز من الوعى بالهوية لدى الأجيال الجديدة، نكون قد حققنا المراد من رب العباد.. ولم يكن الدكتور العالم أحمد زايد مغاليًا عندما نبه إلى خطورة الأمر، وضرورة بل حتمية أن نتصدى له، عبر سياسات وآليات قابلة للتطبيق، ولا يقتصر الأمر على الرصد، والحديث النظرى، فقضية الهوية أصبحت أمرا مطروحا وبجدية، وهو وللأمانة ليس هما مصريا فالقضية مثارة على مستوى العالم، والتحديات أصبحت خطيرة وملحة فى مواجهة العولمة التى محت فى طريقها كثير من الهويات، وفى ظل ما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعى من انفتاح لا محدود على كل شىء فى العالم.


بقدر سعادتى بالحوار الوطنى كحرم آمن ومظلة نستظل بظلها لنعيد ضبط البوصلة الوطنية، إلا أننى أرى أن الأمر اتسع إلى الحد الذى قد يهدد المردود المتوقع منه، وعندما تراجع النقاط التى خلصت إليها اللجان التحضيرية لمناقشتها تستغرب، وكأن كل شىء يحتاج إلى تغيير وإعادة نظر، وكأننا سنعيد اختراع العجلة فى كل شىء وأى شىء من مناحى الحياة، أمر صعب، وأكاد أرى أن الخرق قد اتسع على الراتق، ما كان أحوجنا إلى أن نحدد أولويات وسياسات عامة وما يمكن أن نعتبره عقدا اجتماعيا جديدا نتوافق عليه من خلال الحوار الوطنى، ويكون بمثابة دستور مرحلة، ننطلق على أساسه، أما ما أخشاه أن يتسبب هذا الصخب، وهذا الزخم، وهذه الوفرة فى الطروحات والرؤى فى كل صغيرة وكبيرة، فى تهديد النتيجة المأمولة والمرجوة التى نصبو إليها جميعا.
ورغم هذا فأنا متفائل لأن على رأس لجنة الثقافة عالم الاجتماع الدكتور أحمد زايد، ويساعده الدكتور أحمد مجاهد، فهذا اختيار للأمانة صادف أهله؛ د. زايد عالم اجتماع سياسى، عالم بالمتغيرات التى تعرضت لها الشخصية المصرية عبر العصور، ومجاهد اعترك دولاب العمل الحكومى فى عدة مناصب فى وزارة الثقافة، ويعرف أضابير كل شىء، ويعرف نقاط الخلل، ومن أى نقطة يبدأ الحل.


كيفك يا زول؟
فى منتصف سبعينيات القرن الماضى وكنت وقتها لا أزال صبيا فى شبين الكوم بمحافظة المنوفية، سكن فى البيت المجاور لبيتنا أسرة صغيرة: زوج وزوجة وطفل صغير، ولكن استوقفتنى البشرة السمراء للأسرة وزى الزوج الذى كان أحيانا قميص وبنطلون، وأغلب الوقت جلباب أبيض ولكنه يختلف عن جلباب أبى، ويعتمر عمامة بيضاء يلفها بطريقة خاصة تختلف هى الأخرى، وزى الزوجة الذى لم يكن مثل زى أمى أو أخواتى البنات، كانت تخفى كامل جسمها فى عباءة تختلف حتى عن عباءة النسوة فى المناطق الشعبية، كانت عباءة شفافة مزركشة الألوان تلف بها جسمها عدة طبقات، لم يمض وقت طويل، حتى دعا والدى -رحمه الله- الجار الجديد إلى بيتنا، لنعرف أنه زول سودانى مبتعث لنيل الدكتوراة من كلية الزراعة جامعة المنوفية، وكانت وقتها أحد أهم الجامعات فى الشرق الأوسط، ومن يومها تبادلت الأسرتان الزيارات، وظهرت الحناء مرسومة على أيادى أخواتى البنات وشعورهن كما ظهرت التوابل السودانية على مائدة بيتنا، وأصبحت إقامة ابنهم علم الدين المفضلة فى بيتنا، كان يرفض أن يذهب إلى والديه إلا مضطرا وقت النوم، كان دون سن الدراسة، ولكن حديثه ولهجته كانت آسرة بالنسبة لى، وتعلمت منه ومن والده اللهجة السودانية إلى حد الإتقان، ولكن والده كان صاحب فضل علىَّ عندما أهدانى ديوان «أغانى أفريقيا» للشاعر العظيم محمد الفيتورى، فوقعت فى هوى هذا الشاعر الثائر الذى أصبح أيقونة الشعر الإفريقى، والذى تحتار إلى من تنسبه: إلى السودان بحكم أن جده زنجى، ووالده سودانى، أم إلى مصر بحكم جنسية الأم المصرية، ولأن الأسرة عاشت واستقرت به طفلا فى القبارى بالإسكندرية، والتحق بمدرسة الأخلاق الأولية، وعاشت أسرته مع الأسر المصرية ويلات الحرب العالمية الثانية وهاجر إلى ريف كفر الدوار.
كان أبى ينادى جاره السودانى الشاب بالزول، كنت أعتقد أنها لفظة سودانية عامية، ولم أكتشف أنها عربية فصيحة إلى عندما كبرت وعرفت أن الزول هو الكريم الجواد، وهو خفيف الحركات، وهو الشجاع الذي يتزايل الناس من شجاعته.. بل يمكن المناداة على الأنثى بالزولة، والزولة هى المرأة الظريفة.
لماذا أحكى هذه الحكاية الآن ؟
لا يخفى على أحد المحنة التى يعيشها السودان الآن بسبب الاقتتال الداخلى بين فريقين كلاهما يحمل السلاح، وكلاهما يتمسك بشرعية موقفه، والضحية أهلنا الذين تحولت حياتهم إلى قطعة من العذاب، سقط الإخوة فى الفخ، ولم يستوعبوا الدروس: درس سوريا ومن قبلها العراق، ودروس اليمن وليبيا والصومال.. الجميع سقطوا بمحض إرادتهم لقمة سائغة على مائدة اللئام.
واستقبلت مصر عشرات الآلاف من الإخوة السودانيين خلال الأسابيع الأخيرة، وكلنا يعلم كيف كان الاستقبال الذى يمكن أن تضعه تحت عنوان بسيط هو استقبال الأخ لأسرة أخيه الذى يمر بأزمة.


عدد خاص
فى «أخبار الأدب» التى أشرف برئاسة تحريرها، ارتأينا ألا نقف بعيدا، ونقول إن ما يحدث مجرد شأن من شئون السياسة اللعينة، لذلك خصصنا العدد الأخير للحديث عن المبدعين السودانيين الذين استخرجت شهادات ميلادهم الإبداعية من مصر، والعكس كيف أثر المبدع المصرى فى السودان، وقام بإعداده المؤرخ والكاتب الكبير شعبان يوسف.. الطريف أننى وجدت قواسم مشتركة بينى وبين شعبان يوسف، أهمها أن أول يد امتدت لكلينا لتهدينا كتابا كانت يدًا سمراء من السودان الشقيق.
نحن إذن أمام سبيكة تشكلت بجينات سودانية مصرية مشتركة.
أقال الله السودان من عثرته.