يوميات الأخبار

«الصفح الجميل».. سر التأليف بين القلوب

علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب

كانت مساعى أبى تُكلل - فى الأغلب الأعم- بالتوفيق فقد كانت القلوب قريبة، رقيقة، وكان ثمة استعداد لمقابلة الإساءة بالإحسان، وفتح صفحة جديدة مع المخطئ.

نهم الذاكرة لإستعادة أيام رمضانية بعيدة، نهم لا يحتاج إلى تبرير.

ومع اقتراب الشهر الكريم من نهايته تتداعى الذكريات بلا ترتيب.

من عقود بعيدة، كما من رمضانات قريبة.

من الطفولة والصبا، مروراً بالشباب الباكر، ومقدمات زمن الرجولة، وانتهاء بالكهولة وعتبات مبلغ المرء خريف العمر وشتاءه.

تنساب الذكريات كأوراق الورد ندية عطرية، سريعة أحياناً، متأنية أحياناً أخرى.

تمتزج فى كل ذكرى الاحداث بالاشخاص، ربما أراها بنظرة طائر، أو تستغرقنى بملابساتها كمعايش لها رغم ضبابيتها، أو غياب بعض تفاصيلها بحكم فعل النسيان!

أول رمضان صمته، تناوب الفصول عبر رمضانات اقتربت من الستين، تلاوة الشيخ رفعت، تواشيح النقشبندى والطوخى، الصوم فى الدراسة، السفر فى نهار رمضان مع إصرار على عدم استخدام رخصة الإفطار، لقاءات الاصدقاء والجيران والاقارب قبل وبعد المغرب، صلاة التراويح، يا إلهى كم تحتضن الذاكرة من تفاصيل ودقائق، لاتتدافع إلا بحلول رمضان!

بعض الذكريات ينحو بك باتجاه عقد مقارنة غير مقصودة، عفوية تماماً، بين حدث أو موقف بعيد، وآخر ابن اللحظة الراهنة.

من فى مثل هذه المرحلة من العمر، يكون الحنين للماضى، وربما الانحياز لملامحه يتم برغمنا، وهنا تحديداً اتذكر أبى رحمه الله، وموقفاً كان معتاداً فى أخريات رمضان دائماً.

على مدى أيام وليالى الشهر الفضيل، كان حريصاً على التأليف بين قلوب المتخاصمين فى كل الدوائر المحيطة به، وكان شعاره الأثير مقتبساً من القرآن الكريم:

«اصفح الصفح الجميل».

كان يرى أن على الانسان أن يغتنم فضل رمضان الذى تُضاعف فيه الحسنات ويُجزل فيه الثواب، فرصة لفتح صفحة جديدة بالصفح، ويا حبذا لو كان جميلاً.
وحين يجمع بين طرفى الخصام يحضهم على التأسى بقدوة ما أروعها من قدوة، أحسن الخلق عليه الصلاة والسلام، الذى وجه الخالق العظيم أمره إليه بالصفح الجميل، وعن من، عن المشركين، وقانا الله وإياكم شرهم، ليعاملهم بالصبر على أذاهم، معاملة الصفوح الحليم.

كانت مساعى أبى تُكلل - فى الأغلب الأعم - بالتوفيق، فقد كانت القلوب قريبة، رقيقة، وكان ثمة استعداد لمقابلة الاساءة بالإحسان، وفتح صفحة جديدة مع المخطئ طمعاً فى أجر وثواب يناله العبد من خالقه، قبل أن يثنى عليه أى مخلوق، لعلها صورة راقية للدفع بالتى هى أحسن.

دار الزمن دورة، وفى رمضان منذ نحو عشرين عاماً، كان ان بذلت جهداً لا أبغى به غير وجه الله، مستثمراً الجو الروحانى المحيط بالشهر الفضيل، لاجراء أكثر من مصالحة بين اطراف طال الخصام بينهم، واستدعيت من مخزون الذاكرة ما كنت قد عاصرته فى حياة أبى، ورفعت على مائدة الصلح شعار «اصفح الصفح الجميل».

كانت الاستجابة على مضض، وكان الرهان على قابل الأيام لترمم ما أفسده الدهر.

ثم دار الزمن دورة أخرى، وبعد مضى عقد ونصف من المبادرة السابقة، دعوت للقاء يتجاوز فيه الاصدقاء عما سلف، وإذا بالصدمة فى انتظارى!
اذان صُم، وقلوب غُلف، وكلمات كالرصاص، ورفض تام حتى لسماع جملة «اصفح الصفح الجميل»!

مفاجأة مذهلة؛ كأنك لا تعرف من امامك، الحجارة أقل قسوة من قلوب الحاضرين، وحين باءت كل المحاولات بالفشل، قلت لنفسى:

العوض على الله فى الزمن الجميل وناسه.

سجل الخالدين

السبت ١٠ رمضان:

فى مثل هذه الأيام من العام الماضى، سطرت كلمات ترجمت بها- فى ذات المكان- أحلاماً وأمنيات ، تعشمت فى رؤيتها مواكبة لمناسبة مرور خمسين عاماً على نصر أكتوبر، وبيننا وبينها اليوم نحو خمسة أشهر، بينما يأتى رمضان الذى اوشكنا على توديعه ليعلن عن مرور٥١ عاماً على العاشر من رمضان العظيم.

لن أجتر ما قلت، فالموقف لن يسعف فى تحقيق معظم ما تمنيت، وفى المقدمة فيلم سينمائى ضخم، بمستوى عالمى يخلد نصراً يضاهى الاساطير.
لكن أحمد الله على رؤيتى لحلم تجاوز ما حلمت به، إذ كنت أرنو إلى سجل بأسماء شهداء اكتوبر، فإذ بتوجيه رئاسى بحصر دقيق لجميع شهداء مصر منذ حرب ٤٨ وحتى الحرب على الإرهاب، مروراً بحروب ٥٦ و٦٧، والاستنزاف، ودرة أكتوبر الخالدة، هكذا فإن سجل الشهداء يحيى آمالى فى تحقيق المزيد تخليداً لنصر أكتوبر/رمضان العظيم.

إحياء الذكرى الحادية والخمسين لنصر رمضان، أيقظ مشاعر عمرها نصف قرن.

ولأن رمضان هذا العام تزامن مع تداعيات أزمة، أو بدقة أكثر من أزمة عالمية، ألقت بظلالها على أركان المعمورة، ولسنا استثناءً، ولأن الذاكرة انتقائية، فإنها استدعت عشية اقتراب عيد الفطر واقعة لا تنسى.

فى رمضان١٣٩٣هجرية سرت دعوة تتناسب مع مناخى الحرب والنصر آنذاك؛ لاداعى لـ «الكحك» هذا العام، فما يحتاجه من دقيق، العيش أولى به.

فى رمضان١٤٤٤هجرية شكوى من المغالاة فى اسعار الدقيق الصالح لانتاج «الكحك»، ومغالاة أكثر فى اسعار طرحه جاهزاً بالمحلات!

ما الذى تؤكده الذاكرة بوضوح واختصار شديدين؟

إنه فقه الضرورات، إنه فقه الأولويات، لا أكثر، لا أقل.

درس عمره نصف قرن، والعبرة باستيعابه ليس إلا.

طاحونة الإعلانات!

الجمعة ٢٣ رمضان:

هل أغالى حين أصف ما يحدث، من طول ُمبالغ فيه للفواصل الإعلانية على الشاشة الصغيرة، بإنه أشبه ما يكون بالطاحونة؟

زمان كان الاعلان التليفزيونى لطيفاً، وكانت المساحة الاعلانية فى حدود المعقول والمقبول.

آسف أن أضطررت لعقد مقارنة بين زمن مضى منذ عقود، ولحظتنا الراهنة، لكن ما يحدث على شاشة التلفاز مستفز بأى معيار، ويجبرك- أقصد من ينتمى إلى جيلي- على العودة لزمن الابيض والأسود، والقناة الأولى والثانية، والرسوم المتحركة التى كانت مبدعة فى صياغة الإعلان التليفزيونى.

ما علينا.

بالطبع مداد سال كالأنهار فى الحديث عن انتهاك حق المشاهد من جانب القنوات المختلفة، ولا حياة لمن تنادى، واصبح أمراً واقعاً لا قدرة لى على احتماله، ولكن بعيداً عن الفواصل الاعلانية التى كادت أن تصبح هى الأصل، بينما المواد الدرامية والبرامجية هى التى تمثل فواصل بين المساحات الاعلانية الهائلة، أو التناقض بين الاعلانات المستفزة عن سلع وخدمات، لا طاقة للاغلبية العظمى من المصريين بالتعامل معها، وتلك التى تدعو للتبرع للمحتاجين والمرضى، فإن تلك الأخيرة هى محل ملاحظتى، وأظن أن كثيرين غيرى يشاركوننى ما أذهب إليه.

مبدئياً، ثمة مبالغة من زمن وتوقيتات بث اعلانات العمل الخيرى، الأمر الذى يفتح الابواب واسعة أمام العديد من التساؤلات بشأن ما يتم جمعه من تبرعات، وإلى أى مدى يتم توجيهها الوجهة الأفضل.

ليس تشكيكا فى النوايا أو الدوافع، وإنما التأكيد على أهمية إعمال قواعد الشفافية فى إدارة ما يتم جلبه من المتبرعين، وحصة الاعلانات من تلك الأموال الضخمة.

بالمقابل؛ فإن هناك جمعيات لا تملك الاستطاعة الاعلانية - ان جاز التعبير- وربما كانت ساهرة - بالفعل - على أسر فقيرة ومحتاجة، وتستحق أكثر من غيرها، لكنها لا قبل لها بالانفاق الاعلانى الهائل.

الأمر بات بحاجة إلى تنظيم أفضل وأكثر ضبطاً، بل وتحقيق الشفافية لاقصى درجة، بما يحقق نوعاً من رقابة الرأى العام وطمأنته على آليات الانفاق، ولاسيما ما يخص الجانب الاعلانى.

فى حدود متابعتى لأمر تلك الجمعيات، خاصة التى تمتاز بنشاط اعلانى ضخم، لم أضبط إحداها متلبسة باعلان قائمة بمركزها المالى، أو قائمة بالتدفقات النقدية الخاصة بها، أو حصر لأنشطتها مدعومة بأرقام المصروفات الخاصة بكل نشاط و...و... الأهم من كل ما سبق، أن دوراً للرقابة العامة يظل غائباً، سواء فى صورة اعلان- بجملة الاعلانات - يطرح الموقف المالى بتفاصيله فى صحيفة واسعة الانتشار، مشفوعاً بتقرير للجهاز المركزى للمحاسبات حول النشاط والموقف المالى لهذه الجمعية، أو تلك، فإلى متى يبقى الوضع الراهن على حاله الذى يفتح الباب أمام بعض الشكوك التى تصبح مشروعة، مادام ثمة أصرار على بقاء الوضع على ما هو عليه؟

ملاحظة أخيرة: لماذا يشعر المشاهد بأن هناك تنافساً محموماً بين الجمعيات ذات النشاط المتشابه، بينما الأوقع والأفضل أن يكون هناك تكامل فى فعل الخير، إذا كان على الله قصد السبيل حقاً؟!

ومضات:
واهم من يتصور أن التواضع يعكس ضعفاً، لأن الاستعلاء يفضح إنعدام ثقة المتكبر فى نفسه.

ثمة أمى أكثر قدرة على قراءة كتاب الكون الكبير، بوعى يفوق من يزعمون فيض ثقافتهم!

الأنانى يتوهم أنه وحده فى الدنيا، والحاصل أنه يكابد فى النهاية بغربة وعزلة فرضهما سلوكه، وليس الآخرون.

العادل حقاً من يستظل بعدله من يكره قبل من يحب، ومن يعادى قبل من يوالى.

احترامك للآخر يبدأ من احترامك لذاتك، ففاقد الشىء عاجز عن منحه.

الاحلام قد يتأخر شروقها، لكنها لا تغرب أبداً، مادامت حقيقية.