د. خيرى دومة يكتب: سيرة «يحيى» وتميمته التي لم تمت

د. خيرى دومة يكتب : سيرة «يحيى» وتميمته التى لم تمت
د. خيرى دومة يكتب : سيرة «يحيى» وتميمته التى لم تمت

ليس من أهداف الرواية التاريخية أن تستعيد الماضى بشخصياته ولغته وأزيائه، وإنما هدفها الأساسى كما يقول لوكاش أن تنطلق من الحاضر، وأن تصور السياق الكلى للحياة الاجتماعية، سواء كانت حاضرة أم ماضية، فى شكل قصصى سردي. إنها تضع الحاضر فى مقابل الماضى، وتلاحظ ما بينهما من علاقات. الرواية التاريخية ليست مجرد كتاب تدور أحداثه وتأتى شخصياته من الماضي. إن ما يميز الروايات التى تدور أحداثها فى الماضى عن «الرواية التاريخية» الحقيقية، هو الوعى بموضوع التاريخ نفسه، والعناية به؛ فالروايات التاريخية مكتوبة عن قناعة بأن يد التاريخ الخفية ماثلة فى كل مكان من أمكنة الحاضر، وأن التاريخ هو أحد الطرق الأساسية التى نفهم أنفسنا من خلالها، لا بصفتنا كائنات فى مجتمع فحسب، بل أيضًا بصفتنا أفرادًا. ومن هذه الزاوية تُعد الروايات التاريخية روايات حديثة، لأنها معنيّة – ربما أكثر من كتب التاريخ التقليدى - باكتشاف كيف ولماذا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، كما أنها تنزع إلى تذويب التفرقة بين الحاضر والماضى، واستعادة الصلة بينهما.

هذه الفروق نفسها بين التاريخ الرسمى من ناحية، والرواية التاريخية من ناحية أخرى، هى التى تبرر لنا الآن أن ننظر فى رواية «يحيى» لسميحة خريس، لنرى كيف صنع الخيال الروائى من الوثائق القليلة، ومن التفاصيل المنثورة فى كتب التاريخ «الأصلي»، صورة عميقة ومركبة (وواقعية؟)  للتاريخ الموصول بالحاضر.

كنت أعرف من البداية أن «يحيى» رواية تاريخية، لكننى قرأتها بهذه الطريقة التى أقرأ بها الرواية التاريخية عادة. أحداث وشخوص من التاريخ، لكنها فى النهاية رواية، يلعب الخيال فيها الدور الرئيسى. على طول الرواية كان هذا الإحساس يتأكد صفحة بعد صفحة وفصلا بعد فصل.

اقرأ ايضاً| الوكالة الدولية تجيز مشروعا مصريا لحفظ الآثار

وبدا لى يحيى أقرب ما يكون إلى أبطال السير الشعبية الذين يولدون فى ظروف خاصة جدا، ويرحلون من بلد إلى بلد فى تغريبة طويلة، ويمثلون قيم الجماعة بصورة ما.

وكنت قد نسيت تمامًا أننى أقرأ رواية تاريخية إلى أن وصلت إلى الصفحات الأخيرة من الرواية (ص 433 وما بعدها) وفوجئت أننى أمام شخص تاريخى حقيقى معروف باسم يحيى الكركى وإن كان الكلام عنه فى كتب التراجم وكتب التاريخ محدودًا جدا.

ولم تكن المفاجأة فقط فى أننى استوثقت من كون يحيى شخصية تاريخية فعلية، وأننى عدت إلى ما سجلته عنه كتب التراجم وكتب التاريخ الرسمي. يحيى فى كتب التاريخ والتراجم كافرٌ مجدِّف أو على الأقل موصوم بالشطط الصوفى شأن الحلاج الذى لقى المصير نفسه.

ولكن فى ظروف مختلفة. بل إننى عدت إلى الصفحات الأولى من الرواية لأقرأ فى الصفحة الأولى وبوضوح كامل تاريخ مولد ووفاة يحيى بالتقويمين الهجرى والميلادي، وبعدها تحت عنوان الفصل الأول إشارة إلى تاريخ يسبق مولد يحيى بسنوات.

وكانت المفاجأة الأكبر بالنسبة لى هى هذا الدخول الغريب المفاجئ لصوت الحاضر، وبعد انقضاء زمن طويل على ما وقع ليحيى، ثم بعد قليل دخول ضمير المتكلم بعد رواية طويلة محكية كلها بضمير الغائب، فى كسر بريختى مباشر وواضح لوهم الرواية.

«ووقعت أحداث ذلك اليوم المشئوم، الثلاثاء، الثامن من ذى القعدة فى العام، ثمانية عشر بعد الألف، الموافق ستمائة وعشرة بعد الألف الميلادي، انقضت آجال كل الحاضرين آنذاك، وإن عاشوا زمناً بعد ذلك التاريخ، فمنهم من نسي، ومنهم من انطوى على حزنه، ومنهم من ظل يحدث بما صار حتى توفاه الله، بعضهم حملَ الجسد مقطوع الرأس إلى مقبرة قليط عند الباب الصغير، فواروها التراب بعد أيام من وقوع الزلزلة، وإن لم يعثروا على أثر للرأس؛ رجحوا أن الأرض ابتلعته، أو أن السياف حمله بسلته إلى حيث لا يدرون، وانقضى زمن طويل وتراكمت أغبرة التاريخ وتقلبت أحوال».

ولم يكن الكركى مهماً فى صيرورة الحياة، ولا ترك وراءه أقوالاً وأمثالاً، ولا أقيم له مقام أو زاوية، انتهى ذكره تماماً، إلا شذرات لا وزن لها، تمر خفيفة بين أرتال الكلام فى كتب تاريخ منسية لا يقرأها أحد، لكنه لسبب مجهول، اختارنى وأغوانى فى بدايات القرن الحادى والعشرين، شدنى من قلمى لنتعالق فى حكاية مظلمة عجيبة.

وكان أقسى فصولها تلك المشاهد المهولة التى حدثت فى الثوانى التى تلت قطع رأسه بضربة السياف الماهر المدرب، لم يفسح الكركى لى لأتحرر منه، أو أخط كلمة النهاية السعيدة فى حكايته كما رغبت، ولا رحمني، ولا شفع لى العذاب الطويل الذى تجرعته وأنا أعايشه منذ عام الطاعون فى جلجول، حتى عام الزلزلة فى الفيحاء، لم يعتقني، بل أشهدنى على تلك الثوانى الهائلة بكل حذافيرها، ثوان مرت كأنها الدهر.

وبعدما قص نصل السيف عنقه، وطير رأسه، جذبنى إليه، أدخلنى فى عينيه، رأيت بناظريه أو رأى بناظري، وجحظتُ، كما جفنيه اللذان استجابا للوجع، طار الرأس وهوى ثم تدحرج وأنا فيه، وانقلب، فشاهدت قدم السياف تدفع بالسلة فى تخبط مذعور، علها تتلقف الكرة الطائرة ورشاش الدم، لكن الأرض مادت فجأة، فأزاحت السلة فى اتجاه بعيد، ورشرشت الشرايين المقطوعة دماً كثيراً على الأرض، وتطايرت لطخات حمر على رداء السياف وعباءة القاضى الذى نفر إلى الوراء، وصعد الألم مثل جيش نمل من أسفل الفك، منتشراً فيّ، وفى تجويف جمجمته، صاح لسان الرأس المقطوعة:

إالهي.. يا إله.

نظرتُ؛ ثم رأيت شأناً عجيباً.» ص 433-434

الرواية كلها من البداية محكية بضمير الغائب كأنها سيرة شعبية، كان يحيى فيها هو البطل والشخص المقدس الذى تلتئم حوله الأحداث والوقائع، لكننا ونحن نتتبع سيرته نعيش فى زمن كامل يلعب المقموعون فيه الدور الأعظم، ليس فقط عيسى الطحان والد يحيى الذى عاكسته الأقدار.

وإنما وبشكل خاص المقموعات من النساء الفقيرات المجهولات، بدءًا من نفل أم يحيى التى ماتت عند مولده، ومرورًا بمريم أخته التى قامت على تربيته وحمايته وتهريبه، وصديقتها هفوف التى أعجب صوتها وغناؤها العثمانيين الغزاة  فاختطفوها ورحلوها إلى اسطانبول ومنها إلى القاهرة حيث التقاها يحيى فى رحلته بصحبة جمانة التى صارت حبيبته.

فى المحروسة وفى دمشق الفيحاء لا يختلف الوضع. مهمشون ومقموعون من كل لون يلتفون حول يحيى ويجدون فيه الأمل، وعلماء سلطان وجواسيس من كل نوع يقلقهم وجود يحيى ومعناه، إلى أن يتعاونوا مع السلطان ويعقدوا له محاكمة تكفيرية لا تختلف فى شيء عما وقع فى عصرنا لكثيرين، وتكون النتيجة المرعبة هى قطع رقبته وقطع دابره من التاريخ كله، بل إحاطته باللعنات إلى آخر الزمان.

لا أدرى كيف استطاعت سميحة خريس من معطيات تاريخية محدودة أن تفلح فى تخييل العالم الكامل الذى عاشه أهل ذلك الزمان، عالم مصنوع من ألوان الطبيعة بكل تدرجاتها، ومن معرفة مستفيضة بكل دقائق العطور والنقوش والحرف والمهن والبيئات والثقافات المحلية المتنوعة من خربة جلجول إلى بدو سيناء إلى قاهرة الأزهر وانتهاء بدمشق الفيحاء. وقد استعانت خريس كثيرًا بنصوص من التصوف والفلسفة والحكمة، والأهم بنصوص من الشعر الشعبى والفصيح، والسير والأمثال والأغانى الشعبية، فى مزيج ممتد يبدو بلا نهاية.

عالم كامل يبدأ من الوباء ويمر بالأعاصير والزوابع ورحلة التيه وفقر الأزقة والقمع الدموى المحيط بالمهمشين والحرفيين الصغار فى كل ركن من بلاد الإسلام أوائل العصر العثماني، ونساء كثيرات يملأن عالم الرواية بالصنائع الدقيقة المبدعة.

وكثير من الشخوص سيتركون بصماتهم على ذاكرة القارئ المعاصر، لكن أهمهن بالنسبة لى كانت مريم أخت يحيى فى أول الرواية، والراوية التى التقطت يحيى من ركام التاريخ وأعادته للحياة الكاملة ضد رغبة السلاطين والقضاة ورجال الدين. 

مريم ترسمها الرواية فى صورة أقرب إلى القديسة، وهبت نفسها بالكامل لتربية يحيى وتغذيته وحمايته من المرض ومن كل صنوف الأعداء إلى أن هربته مع حارس شخصى ومنحته ما يشبه التميمة فى صورة عملة ذهبية نادرة فى زمانها، وقد ظل «المشخص» بصحبة يحيى رمزًا للبقاء والصمود وأداة للنجاة فى كثير من الأحيان إلى أن وصلنا للنهاية المأساوية.

وأما الراوية فتأخذها نهاية يحيى أخذًا فى رحلة بحث طويلة كأنها أخته «مريم» أو أمه «نفل» التى تظهر فى الفقرة الأخيرة باحثة مع الراوية عن رمزية يحيى وأمثاله من المقتولين ظلمًا فى كل زمان ومكان، وفى مشهد دموى ورؤيوى تنتهى به الرواية لتتركنا نحن القراء فى مواجهة المصير:

«شاهدت البوابة تنخلع وتطير فى الهواء مع عصف كثير؛ اهتزت الحجرة ومالت وانبعث من جدرانها عواء صادر عن الشروخ التى تضربها من الأعلى، وتشرطها إلى الأسفل أو العكس، وتطوح الحارس مفزوعاً عند البوابة، وقد زلت قدمه إثر انزياح العتبة، وانشقاق الأرض فى ثلم عريض.

وصار صراخ كثير وهرج، والقضاة ينقلبون ويتساقطون على ظهورهم ويتكومون أكداساً، لَفَّت الرأس، فشاهدَتْ الناس فى الخارج يتخابطون، يتعانقون، يتدافعون، ويرفعون أيديهم إلى السماء جائحين مولولين، وقفت جمان بينهم بكامل بهائها وروائها، مثل زنبقة سوسن، تنظر إلى الأعلى غير عابئة بالأرض تتشقق فى كل اتجاه.

ونظرتُ حيث تنظرُ، شاهدت نتفاً من أوراق وبتلات الورد الأحمر جلبته الريح وبعثرته؛ انهمر من البستان فى أعلى الهضبة، منصبًّا على الناس كأنه مطر غزير، انقلب الرأس فى تدحرجه مرات؛ فغامت الرؤيا كالضباب، ثم شاهدت وجه الجلاد ينوح وبدنه يتطوح فى المكان يبحث عن عمود يسنده.

وكان جسد يحيى المذبوح جاثياً على بعد أمتار ينتفض، ثم ينهدم، وينهار مدفقاً دماً غزيراً قانياً، وأقدام الشيوخ تنهض من تكدسها؛ تتراكض فى القاعة، تتعثر بالجبب والعباءات، وترتطم بالجسد مقطوع الرأس، نطَّ المشخص من جيب القتيل، برم مثل مخروط الدوامة ولعبة البلبل التى يحب، ثم انزلق فى الفتحة المنشقة عند أرض العتبة، وغاب.

رأيت نوراً كثيراً، وسمعت هدهدة على مقام السيكاه، وشممت عطراً كأنه الياسمين، وتقدمت منى امرأةٌ لم يسبق لى لقاؤها، لكنى عرفتها، جاءتنى نفل فى معمعة الزلزلة، أنقذتنى من الدهس بين أقدام الضائعين، وحملت الرأس المقطوع مثل قمر بين كفيها يخر دماً، وتبسمتْ فتبسمتُ، ثم راحت تصعد بى سلماً من ضياء، والعالم من تحتنا، يجوح، ينوح، يتجلل بالسواد والدم، وقد صعقته الزلزلة.» ص 436.