فولاذ عبد الله الأنور يكتب: «ســـارة».. الموقعة التى أنهكت الأستاذ

فولاذ عبد الله الأنور
فولاذ عبد الله الأنور

لم أكد أفرغ من مراجعاتي لكُتب العقاد، وخاصّةً منها التى تُعين على ترجمة سيرته الشخصية بقلمه هو، لا بأقلام غيره ممن عاصروه أو تتلمذوا عليه، أو حتى أولئك الذين اشتبكوا معه فى المعارك الثقافية والسياسية الشرسةـ التى اتسمَت بطابع السّموّ فى المناجزة والتّرفّع فى الاقتتال، وكان يخرج منها فى كل مرةٍ منتصرًا على خصومه ومناوئيه بالضربة القاضية، لم أكد أفرغ منها، حتى التمعَت ذاكرتي بحوادث موقعته الوحيدة التى لم يحسمها بانتصاره المعهود أو عزيمته المُضواء، وإنما خرجَ منها مُثخناً بالجروح والآلام، تنوشه الرماحُ وتعتمل فى قلبه السهام والنبال! ليستخلصَ لنا منها فلسفته فى الحب ويودعها لطِلْبةِ العاشقين والمتأدبين فى قواريرَ يستعصى زجاجُها على نوائبِ الزمن وحادثات الليالى والأيام.

هذهِ الموقعة الوحيدة التى هزّت العقادـ تلك التى تركَت أثرَها فى قلبى غائرًا كجُرحٍ قديم- جرت وقائعها على بلاط الحب مع المرأة التى أحبها وأحبته، واختلط فيها الهوى بالهجر، والمواعداتُ بالمباعدات، والحُنوُّ بالقسوة، والتلذّذُ بالألم، واليقينُ بالشكُّ الذى لا قرار له. 

هذا العملاق الذى اهتزّت له المنابر فى الساحاتِ ذات يومٍ وارتجّت لفكرِهِ المحافلُ والمنتديات، هُوَ هُوَ نفسُهُ الذى اهتزّ فى الميدان لسلطان الحب، واهتزّت معه فيه حبيبته ومبتغاه، ووقعا أسيفَين فى معترك هواهُ ونجواه، ليخسرا بذلك النعيمَ الذى عاشاه، ونفوز نحن بأروع ما كُتب فى مجال الحب وأبرع ما سُجّل من عجائب الهوى وملَكاتِ العاطفة والشعور.

وحسبك من هذا كله أن تقرأ قصة حبيبته «سارة»، التى يغلب فيها الطابع الفكريّ على الطابع القصصيّ، وقد جاشت صفحاتها بالاعترافات الصادمة والمواقف المثيرة، «سارة» أو «إليس داغر»  كما هى معروفة باسمها الحقيقى فى المحيط الثقافي، قاهرية من أصولٍ لبنانية، معروفة باهتمامها الأدبيّ والفنيّ، ملكَت عليه قلبَه وفكرَه وأقضَّت عليه مضاجعَهُ، فخلدها فى يتيمته الشهيرة «سارة» التى أحدثَت دويّاً هائلاً إبّان صدورها فى طبعتها الأولى عام ١٩٤٢م. 

فى هذهِ الرواية يصف لنا العقادُ جوهرَ المرأة الذى يعرفه الجميع ولا يصرّحون به، فيقول: (منذ الأزل وقفَت هذهِ الفتنة إلى جانب، ووقف إلى الجانب المقابل لها حكماءُ الأرض وهُداتها ومشترعوها وأصحاب الدساتير فيها، وقالت هذهِ الفتنة كلمتَها، وقال الحكماءُ والهُداةُ كلمتَهم.. وأمامك الناس جميعاً فاسألهم واحداً واحداً: كم مرة سمعتم هذهِ وكم مرة سمعتم هؤلاء؟ وأنا الضمينُ لك أن فى تاريخ كل إنسان مرةً واحدةً على الأقل، سمع فيها لهذه الفتنة ولم يسمع معها لحكمة الحكماء ولا لشيءٍ من الأشياء). 

غير أن الذى يأخذ بمجامع أنفسنا ونحن نقرأ الرواية، هذهِ العاطفةُ الجائرة التى لا سبيل للرجال إلى مقاومتها حين يتيقّظون على صوت الحبّ ويتنبهون إلى نداء الطبيعة فنلقاهم لا حول لهم ولا طَول أمام تقلّبات الهوى وتبدّل الأحوال فيه والغايات. يقول العقاد مُصوّرًا انقضاض المفاجأة عليه حين صادفته حبيبته فى الطريق بغتةً بعد القطيعة التى ضربها بها على امتداد خمسة شهور كاملة.

لم يقوَ العقاد على الرد عليها، فقد أُخِذ على حين غِرة كما قال، فوقف هنيهةً لا يدرى ما يقول، ووقفَت هى أيضاً لا تدرى ما تقول، وكأنما ندمَت على الكلمة التى لم تسمع لها الجواب السريع، فأشارت إلى عربة خيول كانت واقفة، فإذا بهما يسيران معاً إليها، فتجلس فيها، ويجلس هو إلى جانبها، وتنطلق بهما المركبة إلى غير جهة، لأنه ردّ على الحوذى بقوله: سر بنا إلى حيث تشاء! 
يقول العقاد: (فجلسَت صامتةً، وجلسَ كذلك صامتاً، وطال الصمتُ لا لأنه كان يريده، ولكن لأنه كان يفتش عن كل كلامٍ فى الدنيا فإذا هو يهرب أو يستعصى ولا ينقاد!).

ويبدو من هذا السياق ـ للوهلة الأولى ـ أن العقاد حسم الأمر لصالح وِصالِ حبيبته، لا لقطيعتها، غير أنه لا يلبث أن يشدنا معه فى دوامة التمزّق بين الوصل والقطيعة فى مشاهد يبلغ فيها الحزن والألم حدَّ الأمواج المتلاطمة التى لا تصمد لها حوافّ اليابسة فضلاً عن رهافة الوجدان.