زيارة لجامعة يريفان

جامعة يريفان
جامعة يريفان

فى بنايات ضخمة لازالت تعكس وجه الاتحاد السوفيتى المتفكك، والذى لم تستطع معظم مبانى أرمينيا نفض غباره كحال معظم أبناء الشعب نفسه قادتنا الدكتورة صونا طونيكيان الرئيس السابق لقسم الدراسات العربية فى جولة داخل جامعة يريفان الحكومية، لتقديم صورة كاملة عن العملية التعليمية داخل قسم الدراسات العربية والذى يعد من أوائل الأقسام داخل الجامعة العريقة منذ افتتاحها عام 1919. كما قدمت لنا صورة أخرى عن تأثير الحرب الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورنو كاراباخ «أرتساخ» وانعكاس ذلك على العملية التعليمية ككل.

بدأت الزيارة من داخل مكتبة قسم الدراسات العربية، حيث توجد العديد من المؤلفات العربية الضخمة، والتى يتوسطها القرآن الكريم، بجانب العديد من كتب التفسير مثل تفسير الطبري، وآخر للفضل بن الحسن الطبرسى، وغيرها من المؤلفات التراثية العربية.

داخل قاعة تحمل اسم «مصر»، وزينت ببورتريهات تحمل صورًا لتوت عنخ آمون، قابلنا طلبة القسم الذين أشاروا لقراءتهم أعمالًا أدبية لنجيب محفوظ وطه حسين، ومحمود تيمور، بجانب قراءتهم للشعر القديم مثل شعر عمرو ابن أبى ربيعة، وأشعار أبى نواس، والمعري، والمتنبى وإمرؤ القيس، فأجمعوا أن قراءة الشعر القديم بالنسبة إليهم معقدة نظرًا لطبيعة اللغة القديمة، وهنا ارتسم على وجه صونا ابتسامة وأشارت إلى أن الطلبة مؤخرًا تعاملوا مع نصوص حديثة جدا وترجموا أغنية محمد رمضان وسعد المجرد «انساني»! 

فرص عمل قليلة

خلال حديث دار بمكتبها قالت د.صونا إن قسم الدراسات العربية بالجامعة يضم فى المتوسط 40 طالبًا فى السنة الدراسية «نهتم بتكوين رؤية كاملة عن الثقافة العربية ككل، ونحاول تكوين صورة كاملة عن الأدب العربى بشكل خاص خلال سنوات الدراسة.

وبشكل عام هناك جامعتان داخل أرمينيا بدأتا تدريس العربية منذ عدة سنوات بخلاف جامعة يريفان، وبشكل شخصى لا أجد أنه من الضرورى التوسع فى الأمر، لأن عدد الخريجين كبير جدًا إذا ما تمت مقارنته بحجم السكان داخل الدولة، وفرص العمل قليلة للغاية، ونسبة من يعملون فى مجالات تتعلق باللغة العربية لا يتجاوز ال20% من إجمالى عدد الخريجين».

غياب دعم الترجمات

يعانى الأساتذة داخل أرمينيا بسبب غياب دعم الترجمات من قبل المؤسسات الثقافية «نحن للأسف لا نتلقى دعمًا للترجمة، قمت بتأليف 10 كتب لتعليم العربية ولم أتلق أى دعم سوى عن ثلاثة أعمال منهم فقط، وكان تمويلًا ضعيفًا للغاية، فنحن نكتب وننشر على حسابنا الشخصي.

 

وهو أمر صعب ومرهق جدًا، لأننا نقوم بالتدريس للطلبة بشكل مستمر، ونكتب الكتب فى أوقات فراغنا، ولكن من الضرورى توفير كتب للقارئ الأرمينى ليتعرف على الثقافة العربية، والمؤسسات الثقافية بدورها لا تتحمس لفكرة الترجمة العكسية من العربية للأرمينية نظرًا لأن عدد الأرمن داخل أرمينيا حولى 3 ملايين نسمة.

وهذا الرقم يعادل تقريبًا نصف سكان حى شبرا بمصر مثلا، فنحن بلد صغير وينظر إليه على أنه غير مؤثر فى السياسة بشكل عام؛ لذلك الأمر ليس له أولوية قصوى، أتذكر أننى فى إحدى المرات قابلت أحد المسئولين كان ذلك فى حدود عام 2018، وقد اتفقنا على التعاون.

ورحب بالأمر فى بداية الحديث، لكنى تفاجأت بسؤاله عندما قال لى نصًا كم عدد سكان أرمينيا؟ والموضوع بشكل عام ينتهى عند هذا السؤال؛ لذلك لا يتم الالتفات للغة الأرمينية لأن هناك لغات يعدها البعض مهمة مثل الروسية واللغات الأوروبية، وأيضًا الصينية واليابانية، وهذه اللغات أكثر انتشارًا من الأرمينية؛ لهذا أكتب فى النهاية دون تلقى أى دعم لأنى أدرك حقيقة وحجم المشكلة».

تأثيرات الاتحاد السوفيتى

ولدت طونيكيان فى كنف عائلة حرصت على الاهتمام بالقراءة، كانوا يقرأون بشكل منتظم، وقد اسهمت نشأتها فى كنف الاتحاد السوفيتى لحد كبير فى تكوينها الفكرى «تخرجت فى المدرسة عندما كانت أرمينيا لاتزال تابعة للاتحاد السوفيتي.

وهذا يعنى أننى دخلت المدرسة وتخرجت فيها خلال الحقبة السوفيتية، ورغم كل مساوئ الاتحاد إلا أنه كنظام اهتم بتثقيف الطلبة، وكان لزامًا علينا القراءة فى المدرسة بشكل منتظم، كنا نقرأ بلغات مختلفة أتذكر أننى فى الصف الأول بدأت قراءة اللغة الأرمينية، وفى الصف الثالث قرأت باللغة الروسية، وهو أمر لم يكن إجباريًا لكنى أحببت الأدب الروسى وتأثرت به كثيرًا، وفى البداية قرأت الحكايات الأرمينية والحكايات الروسية وغيرها من بلدان العالم.

وقرأت ل بوشكين، وميخائيل ليرمنتوف، وتولستوى وبعده دوستويفسكى وهو بالمناسبة من أفضل الكتاب الذين تأثرت بهم فى حياتي. أما بالنسبة للكتاب الأوربيين كنت أقرأ للكاتب الفرنسى بلزاك، وشكسبير، وبعد ذلك كتاب أمريكا اللاتينية مثل هيمنجواي، وفى المرحلة الجامعية بدأت قراءة الفلسفة فتعرضت لكتابات كانط، ونيتشه، وهيجل، وبالنسبة للكتاب العرب، كنت أعرف الشاعر أبو العلاء المعرى لأن أحد الكتاب الأرمن كتب عنه شعرًا.

لكن بشكل عام بدأت قراءة المؤلفات العربية بعد دخولى للجامعة، وأحببت ما كتبه كتاب القرن ال20 مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وجبران خليل جبران، وقرأت قصصًا لمحمود تيمور، وتوفيق الحكيم».

مقارنة الأديان

تعد صونا طونيكيان أحد أهم المستشرقين الأرمن، فقد تخرجت من جامعة يريفان عام 1989، وتعمقت فى دراسة الأدب العربى وكذلك مقارنة الأديان «دخلت القسم لأننى أحببت دراسة اللغات والأديان، وقد اخترت اللغة العربية لأنها جمعت كلا الأمرين، وفى عام 1996 سافرت إلى دمشق.

ودرست فيها اللغة العربية لبضعة أشهر، وفى عام 1997 بدأت تدريس اللغة العربية بالجامعة وخاصة الأدب العربى فى العصر الجاهلي، وكذلك القرون الوسطي، وقد درّست بعض المواد المتعلقة بالدراسات الإسلامية، وبجانب الأدب فتخصصى كان معنيًا بالدراسات الإسلامية والقرآنية بشكل خاص».

الإسراء والمعراج

أرادت صونا دومًا الجمع بين الأدب والدراسات الإسلامية، فجاءت أطروحتها للدكتوراة حول تحليل العناصر الموجودة داخل قصة الإسراء والمعراج «قمت بدراسة رمزية «اللبن» خلال رحلة الإسراء فعندما أتى جبريل للنبى محمد(ص) بثلاثة أقداح، إحداها كانت تحوى لبنًا وأخرى خمرًا وأخرى ماءً، اختار النبى محمد (ص) اللبن، ورد عليه جبريل وقتها وقال «أصبت الفطرة أنت وأمتك»، فقصة الإسراء والمعراج فى القرآن لم تذكر بشكل تفصيلي؛ لذلك قرأت فى الحديث والسيرة النبوية، وصحيح البخاري، ومسلم، والنسائي، واستنتجت أن هذه العناصر والصور الموجودة فى رحلة الإسراء والمعراج موجودة بالفعل فى ثقافات أخرى».

وخلال السنوات الأخيرة كان شاغلها الأكبر منصب على تأليف كتب متخصصة لتعليم اللغة العربية للناطقين بالأرمينية، حيث ألفت حوالى 10 كتب فى هذا المجال «حلمى الأكبر ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الأرمينية بطريقة علمية، لأننا نملك عدة ترجمات لكن جميعها ترجمات تمت عبر لغات وسيطة غير العربية، كالفارسية، والروسية؛ لذلك أريد ترجمة القرآن مع الأخذ فى الاعتبار تقديم جميع التفاسير المهمة».

نهضة الأدب العربى

ترى طونيكيان أن الثقافة العربية أثرت بشكل كبير فى تطوير الحضارة الإنسانية بشكل عام فهى تؤكد أن النهضة الأوروبية خلال القرون الوسطى قامت على ما قدمته الحضارة الإسلامية «تأثرت كل الحضارات بالثقافة الإسلامية، ولكن خلال العصر العثماني، خفتت الثقافة الإسلامية، والثقافة الشعبية هى من ازدهرت خلال تلك الفترة، فازدهرت السير الشعبية والحكايات، ولكن الأدب بشكل عام لم يزدهر فى ذلك الوقت، أما فى الواقع المعاصر حدثت نهضة للأدب العربي، صحيح أن هذه النهضة لا يمكن مقارنتها بنهضة القرن ال20.

ولكن لا يمكن بأى حال تجاهل حقيقة أن هناك نهضة حقيقية فى الأدب خلال الوقت الراهن، ومن وجهة نظرى فالجوائز الأدبية مثل جائزة البوكر العربية فتحت المجال للإبداع العربى ككل، وإسهمت فى التنافسية بين الكتاب العرب، بجانب أن حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل فى الآداب كان حدثًا فارقًا للرواية العربية ودليلاً على ازدهار اللغة العربية والأدب العربى بشكل خاص».

مأساة أرتساخ أزمة لم يتجاوزها الأرمن

وسألناها حول مدى تأثر العملية التعليمية داخل الجامعة بعد الصراع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان، على إقليم ناغورنو كاراباخ «أرتساخ» وأوضحت أن الحرب أثرت على العملية التعليمية ككل «معظمنا صرنا مشغولين بتداعيات الحرب والخسائر الكبيرة التى أصابتنا خاصة الخسائر الإنسانية.

وللأسف خسرنا 5 آلاف شخص، وهذه كارثة بالنسبة إلينا، ربما هذا الرقم ليس كبيرًا لشعوب أخرى، لكن بالنسبة للأرمن فالأمر بمثابة مأساة كبيرة، لأن عدد الشعب الأرمينى ليس كبيرًا كما ذكرت، ودماء أبنائنا غالية علينا، فى البداية لم نكن قادرين على الرجوع للحالة العادية التى يمكننا خلالها مواصلة العملية التعليمية، فالطلبة عندنا لهم أقارب وأصدقاء قتلوا فى الحرب؛ لذلك التأثير كان كبيرًا للغاية، وحتى الآن نشعر بهذا التأثير ولم نتجاوز ما حدث.

وعاصرت صونا العديد من الحروب والنزاعات التى خاضتها أرمينيا وخاصة مع جارتها أذربيجان، لكنها تقول إن الوضع فى الحرب الأخيرة كان مختلفًا تحكى ببطء شديد متأثرة بما حدث وتقول: «المختلف هذه المرة أننا خرجنا منهزمين من المعركة وهذه الخسارة لم يكن سببها أننا ضعفاء لكننا خسرنا لأننا تُركنا وحدنا، وتخلت عنا معظم دول العالم، وتعرضنا للخيانة».

عاصمة الصخب الحزينة

ويمكن لأى زائر قادم إلى أرمينيا أن ينخدع بطبيعة الحياة هناك، تبدو تمامًا كأنها بلد لملمت جراحها توًا وتصالحت مع هزيمتها الأخيرة، لكن الوضع هناك ليس كذلك أبدًا، طرحنا الأمر عليها فأكدت أن الحقيقة مختلفة تمامًا إذ أشارت أن صورة العاصمة يريفان المليئة بالصخب والاحتفالات لا تعكس أبدًا واقعًا «ما يراه الزائر لا يعبر عن حقيقة معاناة الشعب الأرميني، لم نعد قادرين على الفرح عندما نتقابل مع أصدقائنا، نتحدث بشكل دائم عن السياسة والوضع فى أرمينيا، فتأثير الحرب مستمر حتى الآن ونحن لم نتخطى أبدًا الأمر».

حصار إقليم وغياب الأملَ

بعد العودة إلى مصر استمر التواصل مع طونيكيان، رغبة فى الاقتراب من حقيقة ما يجرى هناك، خصوصًا بعدما قررت أذربيجان غلق الممر الوحيد بين أرمينيا وإقليم ناغورنو كاراباخ، وقد أشارت أن جامعة يريفان تضم طلبة من الإقليم المحاصر والذى يعيش وضعاً مآساوياً فى الوقت الراهن «للأسف معظم أسر الطلبة لا يزالوا متواجدين داخل الإقليم نحن نحاول دعم هؤلاء الطلبة قدر الإمكان، فالطريق بين أرمينيا وأرتساخ لا يزال مغلقًا حتى الآن من جانب أذربيجان.

وبالتالى لا يمكن لأحد منهم دخول أرمينيا ولا يمكننا الوصول إليهم، لى أصدقاء هناك ينقلون الوضع لي، فهم يعيشون بدون غاز، وأغلب الوقت بلا كهرباء، كما أن المواد الغذائية محدودة للغاية، إذ يمكن للعائلة الواحدة أن تتحصل على «برتقالة» واحدة خلال الأسبوع، للأسف الوضع كارثي، وهناك البعض يستخدمون طرق وعرة عبر الجبال، فرغم خطورة الأمر إلا أن بعضهم يخوضون المغامرة لحاجتهم للطعام والأغذية من أرمينيا؛ لذلك لا يمكن لشخص أن يتخيل مدى صعوبة الوضع الحالى داخل الإقليم».

فى النهاية وجهنا إليها سؤالًا حول أبرز تأثيرات الحرب الأخيرة قالت: «لقد فقدنا الأمل إلى حد كبير».

 

اقرأ ايضاً | ماتيناداران.. مستودع الهوية

نقلا عن مجلة الأدب: 

2023-2-26