د. لمياء الشريف تكتب: لا شيء حقيقي

صوره أرشيفية
صوره أرشيفية

يقولون عندما يولد كاتب فى أى عائلة، تنتهى تلك العائلة، فى الحقيقة كما كان يحدث دائمًا فى الماضى، تظل العائلة بخير بينما يكون الكاتب من يقوم بكتابة النهاية المأساوية  فى محاولة يائسة لقتل الأمهات، والآباء والأخوات، ليجدهم فى النهاية ما زالوا على قيد الحياة.


فأخى يموت مرات عديدة على مدار الشهر، وأمى هى التى تتصل بى لتخبرنى بموته،  أخوك لا يرد على هاتفي، تقول بصوت خفيض فيه حدة، فالهاتف بالنسبة لأمى هو من يشهد على بقائنا على وجه الأرض. وفى حالة عدم الرد عليها لا يوجد أى تفسير آخر غير الموت.


وعندما تتصل بى لتخبرنى أن أخى قد مات، تريد أن تطمئن أننى سأشارك فى مراسم الحزن فالمعاناة المشتركة تشكل لها سعادة: مصيبة عامة أو فرحا عاما، وفى بعض الأحيان تكون أسباب الموت تافهة: هروب من الغاز، حادث سيارة، كدمة فى الرأس بعد الانزلاق.


فى أحيان أخرى تصبح السيناريوهات أكثر تعقيدًا، فى اليوم التالى لعيد الفصح الماضى، وبعد مكالمة أمي، حضر إلينا شرطى شاب وقال، أبلغت والدتك عن اختفاء أخيك، هل هذا صحيح ؟
 ولم يتحدث أخى وأمى منذ ساعتين تقريباً.  كان أخى قد خرج ليتناول الغداء مع خطيبته، وكانت أمى تستشيط من داخلها غضباً بسبب عدم تناوله الغداء مع من تسببت فى وجوده فى هذه الحياة. 


حاولت طمأنة الشرطى الشاب، كان كل شيء تحت السيطرة. - لا - إنه استشاط غضباً، ليس كل شيء تحت السيطرة، ففى مركز الشرطة كان الجميع يستشيطون غضباً لما يحدث.
فى ذات الموقف لم يكن أخى قد مات ولكنه كان على وشك الموت.


تم العثور عليه فى جراج بعد اختطافه وتعذيبه من قبل حراس الحزب الديمقراطي. فقد أصبح مؤخرًا المستشار الثقافى للمجلس المحلى لمدينة روما وأحيانًا كانت هناك مناوشات مع زملاء الحزب.
 يجب ألا تتشاجر مع أى شخص - أوصته أمى بذلك.


أمي، أنا لا أتشاجر، أنا أعمل بالسياسة.، حسنًا، لكن بعد ذلك يجب أن تتصالح مع الآخرين،وبعد أن عرفت أمى أن ابنها ما زال على قيد الحياة كانت دائما ما تشعر بالخوف. وتظهر علامات الأسف على وجهها كما لو كانت طفلة فى الثانية عشرة وأيضاً تتحدث بصوت طفلة فى الثانية عشرة. ولكن كيف نتعامل معها على أنها طفلة.


ما رأيك أن أذهب لأحمل المكرونة إلى  رجال الأمن ؟ - تتحدث إلىّ بذلك الصوت الطفولى، ومن يدرى لماذا اتصلت برجال الأمن العسكرى وليس برجال الشرطة المدنية. ليس لدى الشجاعة للتحقيق فى هذا الأمر لأنها يمكن أن تتصل برجال المطافىء أيضاً، وقوات الحماية المدنية وهو ما لم تفكر فيه من قبل.


طوال هذه الفترة من الذعر، تكون أمى دائمة الاتصال مع الله مع فرض بعض القواعد مثل: عدم تناول الحلوى، عدم الذهاب إلى السينما، عدم قراءة المجلات، عدم سماع محطة راديو 3، لأيام، لشهور، وربما لسنوات.


وفى الوقت نفسه لا يمكن أن تذهب إلى مصفف الشعر ولا يمكنها أن تشاهد التليفزيون. أحياناً تقرن بعض هذه الأمور ببعضها فعدم سماع الراديو يقترن به عدم تناول الحلوى. أو تقرن عدم تناول القهوة مع عدم ارتداء أو شراء أحذية جديدة. فهناك اقترانات أخرى على حسب الحالة.


وبسبب قلقى عليها أذهب لأزورها فتقول لى: أجئت يا فيريكا ؟ - أمى كانت تنادينى فيريكا، و كنت أتمنى أن يكون أخوك هو الذى جاء، ومازالت أمى تعيش فى المنزل الذى نشأتُ فيه، فى حى سكنى فى الضواحى الشمالية الشرقية بروما.

وتابع لنفس المجلس المحلى الذى أصبح فيه ابنها مستشارًا للثقافة. أود إقناعها بتحويل بعض تلك الفروض  على الأقل لعمل هادف، قائلة لها: قومى بعمل تطوعى، فأنا متأكدة أن الله سيبارك هذا. وفى هذه الأثناء تهز رأسها وتطلب منى تشغيل التليفزيون.

وأن أخبرها بما يحدث فى العالم. تغطى عينيها بيديها ولكنى أراها تسترق النظر بين السبابة والوسطى. تتحسس جهاز التحكم عن بعد وتحاول أن ترفع الصوت وتقول بحنق: الصوت منخفض جدا ولا يمكننى سماع أى شىء.


عندما كان أخى رهينة عند حراس الحزب الديمقراطى، كانت أمى ترتجف وهى فى انتظار المحادثة الهاتفية المصيرية وتقول، أقسمت إذا حدث له شىء سألقى بنفسى من النافذة.


 يا لها من فكرة جميلة يا أمي. هكذا كنت سأقضى اليوم التالى لعيد الفصح مع أخى المقتول وأمى التى تنتثر أشلاؤها على الأرض، ثم ساورنى بعض الشك وقلت:إذا كانوا قد فعلوا ذلك وأنا لا أدرى، هل كنتِ ستلقين بنفسك أيضاً من النافذة؟


يخيم الصمت على المكان، ولا تنظر إلىَّ لأنها ما زالت تغطى عينيها بيديها، قلت لها: وماذا بعد؟ كنت ستلقين بنفسك؟ بالله عليك، لا تسألى هذه الأسئلة الغبية.
عندما أعود إلى منزلى وأفكر فى الأمر، أجد أن هناك شيئا لا يتفق مع مشهد الانتحار غير المكتمل.


ليس هناك نافذة واحدة فى منزل يمكن لأمى القفز منها. فكل النوافذ صغيرة جدًا وكلها مقسومة إلى نصفين، كان أبى يهوى تقسيم الغرف، بدون أى سبب. كان ببساطة  يبنى جا داخل ج. كان يبنى جدرانا داخل الغرف. ولا يمكن أن نعبر عن ذلك بطريقة أخرى.


وكنا أربعة أفراد نعيش فى منزل مساحته ستون متراً مربعا،ً تمكن أبى فى هذه المساحة من  إنشاء ثلاث غرف نوم وغرفة معيشة ومطبخ وغرفة طعام وشرفة أرضية ودورتى مياه، بالإضافة إلى مخزن علوى يمتد بطول المنزل وتسبب فى خفض ارتفاع السقف. فشخص طويل القامة يمكن أن تصطدم رأسه فى السقف ولكن لم تكن لدينا مثل هذه المشكلة فى الأسرة.


ولم تكن هناك أبواب حقيقية، فقط كانت أبواباً جرارة بدون أقفال. كان الأمر أشبه بالعيش داخل بيئة مسرحية، كانت الغرف أشبه بالغرف التى تظهر على خشبة المسرح أمام المتفرجين.
لبعض الوقت فى طفولتي، كانت غرفة نومى لها وجود فقط فى الليل. أثناء النهار تُقلب إلى ممر.

وفى المساء، عندما أضطر إلى النوم، كنت أسحب بابين جرارين وأقوم بإنزال قطعة من الج كانت فى الحقيقة سريرًا مطويًا. وفى الصباح كان يختفى كل شيء ويتغير المشهد.


وكانت تتحرك الألواح وترتفع الستائر. بعد ذلك، تم نقل غرفة نومى داخل غرفة نوم أخي، تم وضعها بالتوازى فى ركن من أركان الغرفة كما لو كانت خزانة موضوعة بشكل أفقى.


وكانت النافذة -مثل كل النوافذ– مقطوعة من النصف بالحائط: إذا كنت أريد أن أطل على العالم، كنت أضطر أن أطل من نافذة تشبه باب الثلاجة  الصغيرة.


كتبت إلى أمى: «أردت فقط أن أخبرك أنك لن تمرى من النافذة»،أجابتنى أمى:  «شكرًا لك يا غاليتى سأضع ذلك فى الاعتبار»،وتعلمت القراءة فى سن الرابعة. فى عائلة أخرى، ربما كنت سأحصل على الأقل على لقب «ماهرة».

ولكن فى عائلتى لم يحدث ذلك على الإطلاق نظراً لأن أخى كان قد تعلم فى سن الثالثة وبحلول سن الرابعة كان يحفظ كل عواصم العالم، وأسماء الرؤساء الأمريكيين بترتيب زمنى بتاريخ توليهم الرئاسة،  ولاعبى اليوفنتوس من عام 1975، وهو عام ولادته.


وفى الواقع، فى تقسيم الأدوار، فكرة أن أخى كان محتكراً لقب عبقرى المنزل سمح لى أن أعيش فى حالة أكثر طمأنينة. عندما كانت أمى تؤيد إمكانية أن أكون الأولى، كما كان حال أخى، كنت أجيب: لا يا أمى شكراً أريد أن أكون مثل الآخرين.


وأشك أنه عندما كنت فى الخامسة كانت لدىَّ القدرة أن أكون كذلك ولكن، لأسباب كثيرة، كنت فى وضع يسمح لى بعدم الاضطرار إلى إثبات أى شىء لأى شخص. لكن بالنسبة لأخى لم تكن الأمور هكذا بسيطة. ولم أكن أحسده على ذلك.


وكانت هناك قصة  تحكيها أمى دائما. ذات مرة، ونحن فى المطعم، أخذ أخى- ولم يبلغ بعد الثالثة- قائمة المأكولات والمشروبات وبدأ قراءتها من أعلى وهو جالس على كرسيه، كان ينطق بوقار بداية السطر ويستشف الإدغام ويشدد الحروف بشكل صحيح.

وكان على النادل الذى جاء لتلقى الطلب أن ينتظر بملل ذلك الطفل الصغير، عبقرى زمانه، لينتهى من قراءته. عندما وصل أخى إلى الجزء السفلى من القائمة الخاص بالحلوى، ظل النادل يقف هناك والقلم فى يده دون أن يظهر أدنى علامة على الذهول والانبهار.


حسنًا، هل ترغبون فى طلب شىء أم أذهب وأعود مرة أخرى؟
عندئذِ أمسك العبقرى الصغير، وكان فريسة للإحباط والخيبة بسبب كلمات النادل، بكوب من الطاولة وعضه، دائمًا ما تكون أمى فخورة جدًا عندما تروى هذه القصة، وتشعر مثل ابنها البالغ ثلاث سنوات بالضغينة إذا لم يظهر الحضور إعجابهم بهذه القصة حتى أنها كانت تبدأ من جديد فى حكايتها للوقوف على الأجزاء الرئيسية بها.


عندما كانت أمى تعرفنا على أناس جدد كانت تقول: وهذه هى جواهرى،و كان من المحتمل  أن الإشارة لم تكن مفهومة وبالتالى بتعبير وجهها كأستاذة كانت تشرح قصة جراتشى “Gracchi”  لكى تشعر بالسعادة وهى تقول «هذه هى جواهرى».


ومع ذلك، فإن الجواهر ليست كلها متشابهة. فبعد أن تعدد أمى الأشياء المذهلة التى كان أخى  قادرًا على القيام بها مثل:  نظم  قصائد ثمانية المقطع عن بطولات جاريبالدى، حل معادلات بمجهولين، حل الكلمات المتقاطعة الثنائية غير المحدودة، ألعاب Master Mind– يأتى دورى وتقول،  أما فيريكا فهى تحب الرسم. فقط.


ولم يكن حتى هذا صحيحًا، لكن مع غياب العبقرية الفذة، تقرر أمى أننى لست سيئة فى الرسم. أيضا الجد بيبينو، والد أبى، كان له دوره فى تكوين شخصيتى.  عندما كنت طفلة، كانت اللعبة الوحيدة التى أحببتها فى «مجلة الألغاز الأسبوعية» كانت تسمى «هذا ما فعلته أنا»!.

وكانت عبارة عن عمل تصميم يبدأ من خطين مرسومين داخل رسم كاريكاتيري. ذات مرة  قمت برسم كائن من سكان الفضاء الخارجى وكان له عينان واسعتان اعتبرها جدى قطاً وسماه القط الفضولي. بعد شهر أعطانى جدى مجلداً مصوراً من القصص الخيالية لـلافونتين وأخبرنى أن «مجلة الألغاز الأسبوعية» أرسلته لى كجائزة عن رسمى للقط الفضولى.


وحتى ذلك الحين كنت متيقنة أنه كان يكذب علىَّ، لأننى كنت قد تحققت بالفعل من الرسومات الحائزة على جوائز ولم يكن هناك أى أثر لرسمى لكائنات الفضاء الخارجى،ومع ذلك كنت سعيدة بالهدية وقبل كل شيء أقنعت نفسى أنه إذا كان بإمكان جدى أن يكذب، حسنًا، فهذا سبب قوى يمكننى أن أفعل مثله.

هكذا فى يوم من الأيام، بينما كنت انتظر أن تنتهى أمى من اجتماع مع المدرسين بالمدرسة، تسللت إلى أحد الفصول حيث ثمة بداخله رسومات زيتية متروكة تحت المقاعد كى تجف. كنت فى الصف الثالث الابتدائى.

و كانت تلك الرسومات لتلاميذ بالصف الثالث الإعدادى. مررت بها واحدة تلو الأخرى، وأصابعى الصغيرة كانت قد تركت أثراً على الحواف، ثم قررت أن أسرق لوحتين واحدة لبحر عاصف والأخرى لمقصورة ثلجية. لوحت بالرسومات جيدًا لمدة عشر دقائق فى الهواء كى تجف، ثم نفخت فيها وبعد ذلك وضعتها فى حقيبتى.


وكان والدى قد أهدانى علبة ألوان مائية. وبعد ظهر أحد أيام الأحد قررت أن أقوم بتجهيز عملى. بعد الغداء أنغلقت على نفسى فى حجرتى الصغيرة متظاهرة بانتعاشة إبداعية. عدت إلى الظهور بعد ساعات ومعى تحفتان رائعتان.

ولم يلاحظ أحد أن هاتين اللوحتين جافتان، أو أنهما مطليتان بالزيت وليس بالألوان المائية، أو على الأقل لم يلاحظ أحد أن هناك اسما  خلف اللوحة مشطوبا عليه بلون أزرق.


وكان أبى وأمى  متحمسين للغاية لهاتين اللوحتين – وكانت ستظل الأعمال الوحيدة فى مسيرتى المهنية- لدرجة أنهما قررا تأطيرهما وتعليقهما فى الردهة،عندما كان يزورنا ضيوف فى منزلنا. وكانت ثمة جولة إرشادية دائما فى معرض الصور فى الردهة.

وأمام موكب الإطراءات نحو الظلام الشبحى لذلك البحر المضطرب والعزلة الرومانسية للكوخ الجبلي، انتهى بى الأمر بإقناع نفسى بأننى حقاً أستحق هذا. فأنا من قرر أى لوحات أسرقها، لم أسمح لنفسى أن تُغوى بلوحة براقة ذات لمسات ريشة طفولية.

ولا بإحدى الصور المبتذلة للعائلات السعيدة، والأشجار، والمناظر الطبيعية الريفية. لقد تحسست أين تكمن موهبتى الفذة فى الاضطراب والاندفاع.
ما زالت اللوحتان معلقتين فى الردهة فى منزل أمي.

فعندما أذهب لزيارتها وأمر أمامهما، تواتينى رغبة فى الاعتراف لها بالحقيقة، لكننى أخشى أنها لن تصدقني. فمحاولاتى القليلة لأكون صادقًة معها لا تؤخذ على محمل الجد، ولكن تراقب بمزيج من الشك والعطف. إذا لاحظت قلقى وأنا بجانب اللوحات.

تأتى بجانبى وتداعبنى واضعة يدها على رأسى، وكأننى عدت الطفلة التى رسمت هذه اللوحات، على الرغم من أن هذه الطفلة ليست أنا.


تسألنى أمى: هل تريدين أن تشترى لك أمك لوحة لترسمى عليها؟
وفى بعض الأحيان أتخيل أن التوقيع الذى أخفته يدى المجرمة قد يظهر كما يحدث فى قصة رعب أن الثلج النقى داخل كوخ الجبل يمكن صبغته بالحبر الأزرق. وأحيانا أخرى أقول لنفسى أننى يجب أن آخذ هذه اللوحات وأنزعها من الإطار وأحاول أن أقرأ الاسم، أبحث عنه على فيسبوك، أقدم اعتذارى بعد ثلاثين عامًا من واقعة السرقة، أكتب رسالة طويلة فى شكل رواية.


وأيها الفنانون الأعزاء، سامحوني. من يدرى المسار الذى أخذته حياتكم. ومن يدرى فى أى شىء كنتم تفكرون فى ذلك الصباح عند دخول الفصل الدراسي، وعيونكم لا تزال خاضعة للنعاس وأنتم تمدون أيديكم  الموهوبة تحت المقعد دون العثور على اللوحات. تأثير الانعدام! انعدام الثقة الكوني! آه، أنا أعذب نفسى الآن لأن أكذوبتى ولدت أكاذيب أخرى. ماذا قلتم لمعلمة الرسم؟ المعذرة، معلمتى، يبدو أن شخصًا ما قد سرق اللوحات؟ وهل صدقتكم المعلمة أم  سخرت منكم؟ يجب أن أتخيل سخرية فصل بأكمله، القسوة الطفولية التى تهين أفضل ما فى هذه الفئة العمرية. مثل هذا الاحساس يعذبني.


فى الواقع، غيرت فكرتى على الفور،ولقد أصبحت أنا وأخى كتابًا. لا أعرف ماذا يقول عندما يسألونه عن السبب، وأنا أقول إنه بسبب الملل الذى بعثه فينا والدانا.
وإذا كانت أمى شديدة القلق.

فأبى لديه شكل من أشكال جنون العظمة. فدراسته ككيميائى أدت به إلى اعتبار العالم وعاء من العوامل  الضارة التى يجب علينا حماية أنفسنا منها باستمرار. ما يعنى الحد قدر الإمكان من خروجنا من المنزل وخنقنا بين أربعة جدران كانت فى مثل حالتنا مائة ج.


كنت فى الثامنة عندما حدث انفجار مفاعل تشيرنوبل. استمرت عائلتي، حتى عندما بدت حالة الطوارئ، فى العيش فى سيناريو فيلم ما بعد نهاية العالم متظاهرين بأننا لا نعيش فى مدينة ثرية نسبيًا فى الغرب، ولكن فى منطقة الخيال العلمى X ذات معدل التلوث المرتفع.


وفى أى مؤامرة كارثية كهذه، عندما يصبح العالم ملوثا، الشيء الوحيد المهم هو الحفاظ على روابط الدم أى الأسرة. لذلك منعنا أبى لمدة ثلاث سنوات من تناول الفواكه والخضراوات والبيض والحليب الطازج وأيضاً منعنا من الذهاب لتناول الطعام فى المطعم أو شراء شريحة من البيتزا ونحن فى الطريق. كان الطعام الوحيد المسموح به هو السلع المعلبة المعبأة قبل 26 أبريل 1986. 


ولم يكن من السهل الالتزام بهذا النظام، لكن يجب أن اعترف أنه كان له سحره، لقد جعلنى أشعر بأننى بطلة فى حالة عزلة محجوبة عن الآخرين. فالتقوقع  داخل شقتنا الصغيرة لتناول التونة والفاصوليا مثل الرواد.

واختلاق الأعذار الغريبة عند الذهاب لأداء الواجبات فى منزل زميلة فى الفصل عندما تقدم لى وجبة خفيفة، أو مراقبة تواريخ التغليف فى السوبر ماركت كل هذا كأنه رموز سرية مخصصة لنا نحن فقط.


وفى النهاية عانينا جميعًا من نقص شديد فى الفيتامينات بالرغم من أن أمى كانت تعطينا بعض المقويات مثل دواء Be-Total و Co-Carentina لم يكن أحد منا يتمتع بصحة جيدة. ومع أننا نجونا من الإشعاعات المنبعثة من المفاعل لم ننج من مرض الإسقربوط.


وبفضل تربية أبى وأمى الشديدة لا أنا ولا أخى تعلمنا أبداً أن نفعل أشياء متهورة مثل السباحة وركوب الدراجات والتزلج وقفز الحبل  (كان هذا سيؤدى حتماً إلى غرق، كسر جمجمة، كسر ساق، أو ينتهى الأمر إلى الموت شنقاً).


وقضينا طفولتنا محبوسين داخل المنزل فى حالة شديدة من الملل نشاكس فى بعضنا البعض. لقد كان هذا الملل شيئاً أساسياً فى حياتنا. لم يكن هناك أحد يعرف كيف يشعر بالملل مثلنا. 


فى فناء المبنى كان هناك دائما أطفال يلعبون، وكانت صرخاتهم وضجيجهم يصل إلينا كلغة غريبة لا نستطيع فهمها أو الوصول إليها. كنا نتلصص عليهم من النافذة الصغيرة، ونحن صامتون، فى العتمة.

وكنا نتبادل التطلع بوجوهنا لبعض السنتيميترات من النافذة (لم يكن يتسع المكان لكلينا معا) ثم نخفض رأسينا فجأة إذا نظر أحد الأطفال لأعلى ليتابع حركات الكرة فى الهواء. كنا مرعوبين من فكرة أن يرانا هؤلاء الأطفال لأن الدعوة للنزول للعب معهم سيكون من المستحيل تلبيتها. فكنا جاسوسين صغيرين مختبئين داخل المنزل.


والسيىء فى ذلك أننا لم نتمكن من إدراك هذا لنقول إننا استطعنا أن نحول ما نفعله إلى لعب «حسناً، لم يرنا أحد!»، والمثير والشيق أننا لم يكشفنا أحد، كنا نختار من بين الأطفال أجمل بنت أو أجمل ولد فى المجموعة، ونعلق على بطء  كبار السن فى السير أمام الممر؛ ولكن لا، لم نكن سوى طفلين ماهرين فى الملل.


فذات يوم، وفى حالة الاختفاء التى كنا نعيش فيها، واجهنا مسألة أخلاقية مؤلمة. كان الأطفال فى الفناء الخلفى يلعبون بضفدع كأنه كرة. فى البداية تم وضع الحيوان ببساطة فى المنتصف، محاطًا بالأطفال، مثل الخاسر الذى جاء دوره فى مشهد هزلى ليتنمر عليه المراهقون.   


وحاول الضفدع الهروب بعمل قفزات، ولكن كان من الواضح أنه لم يكن لديه خطة للهروب. ومن الدائرة المكونة من أرجل الأطفال المحيطة به بدأت الركلة الأولى. بدأ الأطفال فى ركله كأنه كرة. وسمعنا صرخات البشر السخيفة أكثر من تأثير صوت الحذاء على القشرة المتورمة للضفدع.

أو الاصطدام بالأسفلت عندما تزل قدم شخص، لكن كل شىء كان له صدى فى رأسى. تشابكت أيدينا أنا وأخى طوال مدة تلك المجزرة. أعتقد أنه كان يصلي، سمعته يتمتم، على الرغم من أنه لم يرسم علامة الصليب لأننى لم أترك يده. كنت أتمنى فقط أن يموت الضفدع سريعاً ويحررنا من هذا العذاب. لم نستطع أن نأخذ أنفاسنا. أو بالأحرى.

وكنا قد اخترنا عمدا عدم القيام بذلك. خائفين  وغير قادرين على فعل أى شىء، كما هو الحال دائمًا. هل هذا ما كان يحاول آباؤنا الحفاظ علينا منه؟ الاكتشاف المخيف للشر فى الفناء الخلفي؟ يا له من رعب، يا له من رعب!


فعندما اكتشفنا الكتب أخيرًا، لم يكن شكلاً من أشكال الهروب، بل كان بالأحرى نوعًا مهدئًا لحالة الملل التى كنا نعيش فيها. كنت أتخيل هذا الملل فى صورة شىء لونه أبيض موحل: كانت القراءة مثل الغرق فى مستنقع من الحليب.

وكنت أنغمس فيها لساعات، حتى أصبح الجسم متشبعاً بها، تماماً كما يحدث عند إنغماس أى جسم فى الماء وتسلل الماء إلى المسام. كنت أشعر فجأة أن كل شىء كان يكتسب معنى، مثلما يحدث فى ظاهرة انصهار الجوهر فى الكاثوليكية، فلقد انصهر جسدى فى الملل وتحول بذلك إلى قطعة من الملل.


ولم أستطع معرفة ما إذا كنت أحب كتابًا. لم يكن هذا هو الهدف أبدًا. فى الواقع، كانت فكرة أن القراءة يمكن أن تكون متعة مضللة تمامًا. لماذا خُلقت هذه الأمطار الغزيرة عديمة الفائدة؟ كان ثمة شىء ما تخشاه عائلتى أكثر من السحابة السامة لتشيرنوبل ألا وهى المتعة.وقبل أن تأتى الكتب لتزيد من الملل، صنعنا أنا وأخى أشياء لقضاء الوقت. 


واخترع عبقرى المنزل لعبة قضينا بها فترات الظهيرة لعدة فصول صيفية. خلال فترة القيلولة، ثم تدريجيًا حتى غروب الشمس، ثم حتى وقت العشاء، عندما كان يجب أن ننهض، كنا نستلقى بالقرب من الأرض، والمرفقان على الأرض ودفتر ملاحظات أمامنا للعب سباق الأرقام.

ولم نكن نلعب ضد بعضنا البعض، ولكن بجانب بعضنا البعض، لأن اللعبة لم تكن تنافسية. وفى الحقيقة لم تكن أيضاً تشاركية. كان الأمر أشبه بإعداد نفسى للنوم بتخيلنا أننا نقوم بعد قطع الماعز التى تقفز الواحدة تلو الأخرى. كنا نرمى النرد، ونكتب فى دفتر الملاحظات العدد الذى يظهر. كنا نقضى ساعات فى هذه اللعبة بكامل الإخلاص والانتباه.

كنا أكثر إعجاباً برقم خمسة، لذلك كان التوتر الحقيقى الوحيد فى اللعبة هو الأمل فى أن يظهر رقم خمسة عدة مرات، ما كان يظهر تفوق اللاعب. عندما كنت أرمى بالنرد، تجسست على أخى الذى يلقى هو أيضاً بنرده، شعرت فى نظرته شديدة التركيز أملاً فى أن يظهر رقم خمسة، ثم اتبعت يده الساكنة والصادقة وهى ترسم علامة تحت رقم أربعة.

وكان فى عينى بريق الأسف والثقة الشديدة فى الرمية القادمة. وفى حرصى الشديد ألا يرانى وقد قمت برسم علامة فى كراساتى تحت رقم خمسة وخبأت النرد بإصبعى لكى أخفى رقم 2 البائس الذى ظهر لى. 


وكنت أتمكن من الغش فى لعبة zen، مع أن ذلك لم يكن له معنى. ولكنى لم أستطع أن أحول دون ذلك.عندما كان ينادينا أبى وأمى لتناول العشاء ونقارن دفاترنا، كان لدىَّ رقم خمسة الفائز. أنا لم استطع أن أعرف إذا ما كان أخى يعلم أننى كنت أغشه، أو أنه حتى فكر فى مثل هذه الحركة الدنيئة.

وكان يحاول فك رموز تلك البيانات ثم فوجئ بكيفية خروجها من كل قاعدة إحصائية. حاول تطبيق منطق آخر محتمل، كان يبحث عن استكشافاته الأولى فى الميتافيزيقا. سأل نفسه كيف أستطعت أنا أن أحصل على رقم خمسة بهذا الشكل؟ ثم ربت على كتفى وقال: «يا لك من ماهرة».


ففكرت جيداً فيما قاله لى أخى أننى «ماهرة». تساءلت هل هذا كان بسبب مبدأ الأوانى المستطرقة: إذا كان أخى مضطراً إلى أن يقول مثل هذه الكلمة «ماهرة» هل لكى يسمح لنفسه أن يكون هو كذلك أيضاً. كما تساءلت إذا كان هذا يعد أحد مظاهر التهكم. ربما كان مضطراً أن يقول هذا.

وتسائلت عما إذا كان يريد أن يقول لى «ماهرة» بسبب تلك الخديعة التى فعلتها، لمحاولتى كسر ملل لعبه الذى ليس له معنى بعمل شىء أيضاً ليس له معنى. تماما مثلما تريد أن تسألنى ماذا نفعل لنخرج من هذه الغرفة ؟ ماذا نفعل لكى نتحرر؟
وهذا فى الواقع ما كنت أفعله دائمًا فى حياتي،وفى كل مرة شعرت أننى محبوسة فى غرفة صغيرة، داخل لعبة ذات قواعد، لم أحاول الهرب ولكنى أخرق منطق الغرفة والقواعد.


أتخيل أشياء غير حقيقية، وأقولها، وأحسها حتى أصدقها. حتى أصدق أن النرد يمكن أن يعطى دائما رقم خمسة، رغم أنه بلا فائدة على الإطلاق.

اقرأ ايضا | مؤمن سمير يكتب: قصائدُ من «ذاكرة بيضاء»