صدى الصوت

أسفار «ريم» «2»

عمرو الديب
عمرو الديب

بحسب الوعد الذى قطعته على نفسى فى المقال الماضى، أواصل تأمل الصنيع العجيب فى النسيج الجديد للروائية البارزة د.ريم بسيونى، التى استطاعت عبر رحلتها الإبداعية الممتدة، ومن خلال مشروعها الطموح لإبداع رواية تاريخية تحلق بالقُراء فى أفق شيق غير مألوف يشابه الأسفار البعيدة إلى البقاع الغريبة، ولكن رحلات أو أسفار ريم ليست مكانية، ولكنها زمنية،

إنها ترتحل إلى عصور غابرة تحاول استعادتها، وبعثها من جديد، واستدعاءها من طوايا الظلمة، وركام المهملات إلى رحابة الورق الحانى الذى يتشرب فى لهفة قطرات مداد قلمها، ولكم أن تتخيلوا مدى الجهد المضنى الذى يتطلبه بعث عوالم وعصور مضت بعيدًا جدًا، وغطتها رمال القرون المتراكمة، إنها محاولة أشبه بالتنقيب عن الآثار،

ويا لها من مهمة شاقة بالغة الصعوبة والتعقيد، ولا تفصح «ريم» كثيرًا عن المعاناة والمشقة والعقبات التى تصطدم بها فى رحلة استعادة زمن بأكمله، وشخصيات غاربة فانية تعود على مسرح الأحداث من جديد وتتزلج فى رشاقة على أديم «ريم» الرحب، وصفحاتها الحية النابضة، وكنت قد أشرت فى الأسبوع الماضى إلى أن مبدعتنا المتميزة تتغيا مضمونًا ورسالة وليس عالمًا سرديًا ممتعًا، أخاذًا فقط، وفى «الحلوانى» تأكد لى هذا المعنى الذى لاح لى على استحياء بعد قراءة «المماليك»، وأبان عن نفسه بوضوح فى «القطائع»، ثم ها هو ذا يتجلى فى «الحلوانى».. تلك السردية الخلابة التى تمثل كسابقتيها ارتحالًا فى الزمان، وتوغلًا فى العصور، وليس فى الأمكنة، وهى عهود مختارة بعناية، وبعد طول تأمل ذات العبير دائم الحضور والانتشار رغم تراكم الدهور، حيث يصحبنا ذلك العبير على مدى صفحات الرواية التى تطل علينا عبرها حاضرة مصر الخالدة «القاهرة»، ووجوه بناتها، وفى مقدمتهم ذلك القائد المحنك «جوهر الصقلى».. المشيد العظيم، وبانى القاهرة والجامع الأزهر..

ذلك الحلوانى البارع فى صناعة أصناف الحلوى المتعددة، وعلى درب براعة «ريم بسيونى» فى بث روح العصور التى ترتحل إليها، ونشر شذاها عبر غوصها المعرفى فى مصادر تلك الأزمنة، ومعايشة نسيجها وتفاصيلها بإخلاص نادر ومثابرة عجيبة يبدو الأمر فى «الحلوانى» أكثر إحكامًا، وسطوعًا، فقد تفوقت ريم على نفسها واستطاعت أن تتجاوز قمتيها السابقتين، ومنذ أهدت إلىَّ نسخة من «الحلوانى» تحينت الفرصة لأقرأها مع طولها، واستغرق الأمر وقتًا لم أندم حقًا عليه.