حديث الأسبوع

النظام العالمى فى مرحلة مخاض صعب

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

أخطر التداعيات المترتبة عن الحرب الروسية الأوكرانية تتمثل فى الجوانب المتعلقة بالسياسات الأمنية والعسكرية، ليس فى المنطقة المحيطة بها فحسب، ولا حتى فى القارة العجوز التى تدور فوقها، بل فى الأوضاع العالمية والعلاقات الدولية السائدة وفى النظام العالمى القائم، وفى كل ما يتعلق بالاستراتيجيات السياسية والأمنية والعسكرية فى المستقبل المنظور والبعيد. ويمكن القول إن الهواجس والحسابات الأمنية كانت الحطب الذى أشعل فتيل هذه الحرب، كما أنها تمثل أهم التداعيات المترتبة عنها. و هذه أحد أهم الإشكاليات و أكثرها تعقيدا، بحيث تمثل أحد أهم الأسباب، فى نفس الوقت الذى تشكل فيه أكبر التحديات فيما يتعلق بالتداعيات .

الأكيد أن مفهوم القومية الروسية التقليدية كان عاملا مؤثرا فى صلب التطورات الأخيرة ، و هو المفهوم الذى يجد تفسيره فى تاريخ روسيا القديم و الحديث ، حيث كانت القومية الروسية تمثل المرجعية الايديولوجية للاتحاد السوفياتى ، و كانت تنتشر على مساحة توازى مساحة قارة كاملة ، قبل أن تقود التطورات إلى تفتت هذه الكتلة الجغرافية الشاسعة .

و انتهت إلى اندثار الاتحاد السوفياتى ، و سقوط جدار برلين الذى دق المسمار الأخير فى نعش الكتلة الشرقية التى كانت تحقق كثيرا من التوازن فى نظام القطبية الثنائية العالمية ، التى كانت تسود فى النظام العالمى القديم .

و أن القومية الروسية لم تعد قادرة على تحمل التطورات المتلاحقة و المتسارعة التى ضيقت الخناق عليها كثيرا إلى حد محاصرتها بولاءات و تحالفات جديدة وضعت كثيرا من الحصى فى حذائها ، وجعلت سيرها على قدمين بصفة طبيعية و سليمة شبه مستحيل .

و يمكن المجازفة بالقول إن مفهوم القومية الروسية التقليدية أفرز ما أصبح الإعلام الغربى يسميه بـ ( الظاهرة البوتينية) التى تنطلق من مفهوم القومية الروسية التاريخى ، و تحاول أن تعيد القيام بنفس الأدوار التاريخية لموسكو على أساس التطورات المستجدة ، بما يعنى إعطاء نفس الأدوار لموسكو ، لكن فى الإطار الجغرافى الجديد الذى صارت عليه فى الوقت الحالى .

والواضح أن قرار كييف الانضمام إلى حلف الشمال الأطلسى كان بمثابة عود الثقاب الذى كان ينقص الوضع لاشتعال النار فى هشيم التعقيدات الكثيرة التى صارت عليها الأوضاع المحيطة بموسكو و التى قد تكون ارتأت و قدرت من جانبها أن التوقيت مناسب لاتخاذ قرار صعب وخطير، لكنه ضروري، وملح فى مسعى إلى إعادة النظر فيما يحدث ويجرى الترتيب له، و إلى مراجعة الحسابات، وبالتالى الإعلان رسميا على إخراج الخلاف والنزاع حول طبيعة النظام العالمى الجديد من مناطق الظل إلى العلن .

إن ما أكدته التطورات التى أعقبت بدايتها يؤشر على تغيرات عميقة فى البنية الأمنية فى القارة الأوربية و من خلالها فى العالم ، لأن الحرب ليست محدودة فى امتدادها الجغرافى ، بل هى شديدة الارتباط بالأوضاع العالمية.

ولما سيعيشه العالم من أحداث و وقائع خلال المستقبل القريب . وفى هذا السياق لم يكن يتوقع أكثر الخبراء دراية و اطلاعا بخبايا الأوضاع إن تسارع دول أوربية تحصنت فى الحياد و الابتعاد عن خيارات و مواقف التحالفات الأمنية و العسكرية طوال عقود من الزمن ، إلى إعلان التحاقها بحلف الشمال الأطلسي.

و اصطفافها إلى جانب القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية فى الحرب ضد روسيا، و ليس كافيا القول إن هذه الدول تحسست رؤوسها من الخطر الروسي، و أن المد الروسى سيصل إليها .

و أن أى انتصار لموسكو فى هذه الحرب سيمثل تحفيزا قويا لهذا المد و سيمكن ( البوتينية الجديدة ) من الزخم اللازم، بل أنه من الراجح القول إن هذه الحرب مثلت المناسبة و الملائمة لهذه الدول للحسم فى توجهات سياساتها الخارجية على أساس مراعاة مصالح اقتصادية صرفة .

و لم يكن متوقعا أن تبادر دولة ، فى حجم ألمانيا ، بمراجعة خياراتها الأمنية و العسكرية بالحجم و الصفة التى قامت بها بعد إعلان الحرب .فقد أعلنت ألمانيا عن خيار ( التريث فى تعزيز قدراتها العسكرية ) الذى كانت تعتمده لكبح مخاوف أوروبية من تنامى الدور الألمانى فى القارة الأوربية ، حيث تحولت إلى أكبر القوى الاقتصادية فى القارة العجوز ، و لم تتردد برلين فى إعلان منع تصدير الأسلحة الفتاكة إلى مناطق النزاع .

لكنها بمجرد بداية الحرب الروسية الأوكرانية تخلت ألمانيا عن جميع هذه المراجع المحددة لسياستها الخارجية ، و اتخذت قرارات ، يمكن وصفها بالتاريخية و بغير المسبوقة ، للاصطفاف ضد روسيا، حيث أعلنت الحكومة الألمانية عن رفع ميزانية البلاد العسكرية إلى 100 مليار أورو ، وقررت إرسال أسلحة فتاكة إلى أوكرانيا لتعزيز قدراتها العسكرية فى مواجهة الغزو الروسى.

و السبب أنه لا يمكن لألمانيا كما جاء على لسان المستشار الألمانى فى تصريحه أمام البرلمان الألمانى.

انه لا يمكن ( السماح لبوتين بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء ) و لا بد من ( حشد ما يكفى من القوة لوضع حد لتجار الحروب من أمثال بوتين ) و هو بذلك يؤكد بصفة واضحة أن تغيير المواقف و الاختيارات الألمانية فى هذا التوقيت  لا يعود بصفة مطلقة الى الحرب الروسية ، الأوكرانية فى حدودها الجغرافية الضيقة ، بل يرجع بالأساس إلى عدم السماح لموسكو بإعادة إنتاج الماضى .

و تبقى أهم التداعيات ذلك الالتفاف الأوروبى الذى حققته الولايات المتحدة الأمريكية حول اختياراتها و مواقفها و نظرتها إلى النظام العالمى.

و الذى تعذر على الإدارات الامريكية المتعاقبة تحقيقه فى مختلف الحروب الخارجية السابقة التى خاضتها ، و فى مختلف محطات و فترات النزاعات و الخلافات التى خاضتها على المستوى الخارجى.

حيث تحقق ما كانت تسعى إليه منذ عقود من الزمن فى القارة الأوروبية ، و كانت فى حاجة ملحة إليه لتصريف سياساتها الخارجية فى مواجهة غريم تقليدى تدرك أنه يمرض و لكنه لا يموت.

و فى مواجهة قوى اقتصادية عالمية جديدة تزاحمها بحدة و تنافسها بقوة فى مختلف مناطق العالم ، بما يمثل تهديدا مباشرا و خطيرا لمصالحها الاقتصادية الاستراتيجية فى العالم .

هذه إذن حقيقة الحرب التى لم تعد خاطفة ، كما أرادتها أطرافها فى البداية ، و هذه هى الأسباب التى لا تملك أطرافها شجاعة الكشف عنها.
نقيب الصحفيين المغاربة