عزالدين ميهوبي يكتب.. هل هي حربٌ دينيّة.. باردة؟!

عزالدين ميهوبي
عزالدين ميهوبي


منذ أسابيع أقدم رئيس حزب يمينيّ متطرّف في السويد على الوقوف في ساحة تقصدها الجالية المسلمة، وأضرم النّار في مصحف شريف تحت حراسةٍ للشرطة التي لم تمنعهُ من القيام بفعلته بحجّة أنّ الدستور يكفل له ذلك، لأنّ الحريّة أكبر من المساس بمشاعر النّاس.. وتلك إحدى مظاهر الفوبيا التي تنتشر بصورة غير مسبوقة في عديد البلدان من العالم وخاصة البلدان الإسكندنافيّة التي يأخذ فيها الإلحاد واللاتديّن مساحة واسعة، في وقتٍ أخذت السجالات بين فريقي الشّك والإيمان أبعادًا كبيرة إيذانًا بدخول مرحلة الحرب الدينيّة.. الباردة. ولعلّ ما جرى منذ أيّام في الأقصى الشريف من اقتحامات ومداهمات للأمكان المقدّسة يؤشّر إلى أنّ هناك من يسعى لفتح أبواب جهنّم على الجميع.. تحت عنوان حروب الأديان، حيث ارتفع منسوب التطرف والاحتقان مما يُنذر بالنفخ في رماد حروبٍ دينيّة منسيّة قد تستيقظ معها جماجم النّاصر صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد ومن كان وقودا لتلك الحروب!
مظاهر التعدّي على حرمة المقدّس باسم حريّة التعبير، ليست جديدة، وهي تأخذ في كلّ مرّة مظهرًا لها، فتهيّج الشارع الذي يصعب التحكم فيه، وتقود إلى اشتعال صراعات طائفيّة يسقط فيها كثير من الأرواح وتكبرُ فيها مفردة الفتنة التي عادة يكون السبب فيها سلوك فرديّ منفلت.. ومن ذلك ما أورده من نماذج، عايشنا ما قامت به  وردود الأفعال التي انجرّت عنها..
في نهاية الثمانينيات أقدم الكاتب الهندي الأصل الإنجليزي الجنسية سلمان رشدي على نشر روايته "آيات شيطانية" متناولا فيها جوانب من حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بشيء من القذف والتطاول، فتحرك الشارع من طنجة إلى جاكرتا احتجاجا على ذلك، وتمّ إهدار دمه في فترة كان الإسلام السياسي يتشكّل في أماكن عديدة، ومفردة التكفير تمتد في حياة الناس في الاتجاهين!
وفي نهاية التسعينيات طلعت على الناس كاتبة من بنغلاديش اسمها تسليمة نسرين ونشرت رواية اسمها "العار" تطاولت فيها هي الأخرى على القرآن وصدرت بحقها فتاوى بنغالية تهدر دمها.. فاختفت عن الأنظار ثم فرت إلى أوروبا كما هي عادة الذين يفعلونها في النهار ويفرون عند الليل إلى حيث تنعم بالحماية والحرية أيضا، ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى سمع الناس أن تسليمة استلمت منصب سفيرة متجولة للأمم المتحدة تقوم بشيء ما لصالح البشرية (..).
وفي هولندا أقدمت كاتبة هولندية الجنسية صومالية الأصل مسلمة الديانة على نشر عمل روائي يشخص موقع المرأة في المجتمع الإسلامي، استلهم منه المخرج الهولندي فان كوخ عملا سينمائيا انتهى برصاصات في رأسه أطلقها شاب مغربي رأى في ما قام به كوخ إساءة للإسلام و إهانة للمسلمين.. وظلت الكاتبة الصومالية تحت حراسة مشددة.
وعندما تعرضت أمريكا إلى هجومات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 بلغت حساسية العلاقة بين الدين والسياسة والعنف أوجها.. فقال جورج دبليو بوش إن أمريكا تقوم بحرب صليبية ضد المسلمين.. وأضاف أن الله أوكل له الأمر ومعه من الصحابة ما يكفي لكسب حرب شاقة ضد الإرهاب.. الطالع من العالم العربي والإسلامي؟!
وتبعه سيلفيو بيرلسكوني واصفا الحضارة الإسلامية بالتدني والانحطاط، وقال له حينها عمرو موسى: "يا شيخ.. روح أقرأ لك كتاب أو اثنين"، وصار التطاول على القرآن وأهله أمرا عاديا.. حتى بلغت أسماع الناس أن حراس معتقل غوانتانامو الأمريكان يدوسون بأحذيتهم الخشنة المصحف الشريف، بل أكثر من ذلك يرمونه بأقدامهم ويتبولون ويقومون بما تقوم به البهائم في إسطبلاتها.. وحاولت الإدارة الأمريكية ترقيع الأمر بإجراء تحقيقات في الأمر، انتهت إلى تقييد الفعل ضد مجهول..
وانفجرت أزمة الحجاب في فرنسا، ووجد شيراك نفسه في مواجهة ثلاثية دينية من رموز ثابتة، هي الصليب المسيحي والطاقية اليهودية، والحجاب الإسلامي، فبدأ متشددا، وانتهى مهادنا، كما هي عادة السياسة الفرنسية دائما، وعادت مؤخرًا بأكثر حدّة في خطاب مرشّحة الرئاسة اليمينية مارين لوبان.. وكان من تبعات ذلك الهجوم الذي تعرضت له صحيفة "شارلي إيبدو" في 2015 وانتهى بمقتل 12 من موظفيها بعد نشر رسوم مسيئة لنبيّ الإسلام.
وفي نهاية شهر سبتمبر 2005 لم يجد بلد الحليب والأجبان "الدانمارك" سوى وضع يده في فرن ساخن.. وتطوعت صحيفة يمينية محافظة هي "يولاند بوسطن" باختيار 12 رساما كاريكاتوريا عهدت إليهم برسم صورة مشوهة للنبي محمد  - صلى الله عليه وسلم -، تقطر حقدا لتكون غلاف كتاب حول الإسلام أنجزه أحد المؤلفين الدانماركيين للأطفال..
وأقدمت الصحيفة على نشر الرسومات بهدف أخذ رأي الجمهور في أفضلها.. ومن ورائها ضرب المسلمين في عمق مشاعرهم، ولم تتردد ابنة العم صحيفة "غازينيت" النرويجية في إعادة نشر الرسومات، وهي الفكرة التي أخذها حزب سويدي عنصري بهدف استثمارها.. فلم يكن الأمر مجرد رسم لكتاب موجه للأطفال، ضمن محاولة لفهم الإسلام.. لكن المسألة تبين أنها تتجاوز الخط الأحمر والأشعة البنفسجية إلى الإساءة بصورة منظمة للإسلام ورموزه..
المسلمون في تلك البلاد الباردة كانوا يصرخون طيلة الصيف، وأيام الخريف، وبدايات الشتاء، فلم يُسمع صوتهم إلا في مطلع العام الموالي، فكانت أول خطوة طلب الاعتذار، لكن الصحيفة والحكومة الدانماركية سخرتا من هذا الطلب باعتبار أنه غريبٌ عن ثقافة البلد ويتعارض مع مبدأ حرية التعبير في بلاد الجبن المقدّس.. ورفضت الدانمارك الاعتذار، واعتقدت أن الأمر سيكون هينا  وأنّ العرب والمسلمين سينسون ذلك، ولكن عندما أخرجت بعض البلدان سلاحها الدبلوماسي كسحب السعودية لسفيرها بكوبنهاجن، وغلق ليبيا لسفارتها، واستدعاء عدد من البلدان سفراء الدانمارك لديها لتبليغ احتجاجها وغضبها، احتفظت حكومة الدانمارك بشيء من العناد، وصارت تتحدث عن كل شيء سوى الاعتذار للمسلمين عما لحقهم من أذى مقصود، ووصل الأمر بالوزير الأول الدانماركي آنذاك حيث بدا  في حالة إرباك شديدة وهو يواجه الأزمة إلى القول: "إن الذي يحدث هو الغرب المسلح بحرية التعبير في مواجهة المحرمات الإسلامية"، بينما كان بيل كلينتون أكثر فهما للمسألة عندما قال: "يبدو أن العالم يتجه من معادة السامية إلى معاداة الإسلام.."، وهو ما تجلى  في إقدام عدد من الصحف الأوروبية إلى إعادة نشر تلك الرسوم تحديا للمسلمين تعبيرا عن التضامن مع الصحيفة الدانماركية، حتى أن صحيفة "فرانس سوار" الفرنسية لم تتردد في وضع عنوان كبير لها "نعم، يمكننا رسم الله كاريكاتوريا".
فمن هذا الذي يتحدث عن حوار الثقافات والأديان في زمن عدم احترام المعتقدات والتباهي بحرية المس بمشاعر شعوب كفيلة بفتح أبواب الجحيم على الجميع، وخاصة تلك التي يتم تناول رموزها الدينية بسوء، وهو ما تسير إليه أزمة الغرب المتهالك على نفسه جراء عدم فهم نفسية الأمم التي تختلف عنه هوية وثقافة.. ولكن بعد خراب مالطا كما يقولون.. حيث استشرت الاسلاموفوبيا في الجسد الغربي!
فإذا كان "رجل الغرب"، يرى في تناول الرموز الدينية مسألة عادية، فالمسلمون، في غاليتهم، لا يسمحون بإظهار "صور" الخلفاء، وزوجات النبي، وأحفاده فكيف بالنبي نفسه.. وهو ما لا يفهمه بعض فقهاء حرية التعبير في الغرب.. فلماذا يحاولون فهمها باستخدام عنف إعلامي يحظى بحصانة سياسية، ظلّ يتحول مع مرور الوقت إلى عنف حقيقي وفي أشكال مختلفة.؟، لعلّ من أبرز نتائجه ما قام به المتطرّف اليميني النرويجي أندريس بريفيك الذي أقدم على مجزرة قتل فيها 85 شخصا بحجة معاداته للإسلام.. والغريب أنّه عوقب بالسجن 21 عاما.. وربّما يُخفّفُ عنه الحكم لاحقًا.
وأذكرُ أنه عندما أعطيت الإشارة لمقاطعة المنتجات الدانماركية من أجبان تملأ الأسواق العربية خاصة، شعرت حكومة الدانمارك أن الحبل بدأ يلتف حول عنقها فأوعزت إلى الصحيفة بالاعتذار  لكنها أمعنت في استفزاز المشاعر بتمجيدها للحرية مع أسف بارد، وبتبجح كبير ردّ رئيس جريدة صحيفة "يولاند بوسطن" على سؤال إحدى الفضائيات العربية: "لا أعرف لماذا انزعج المسلمون عندما قمنا برسم نبيهم محمد، ولم ينزعج اليهود رغم أننا رسمنا شارون بما لا يليق به.."، وتبيّن حينها مبلغ الجهل المركب الذي يعشش في رأس هذا الرجل الذي اعتقد أن حرية التعبير تخول له المساس بمشاعر شعوب تضع بينها وبين غيرها من الأمم خطوطا حمراء.. وقد أعجبني تساؤل لجنة الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عندما ردّ على ما يشبه اعتذارا للصحيفة: "هل تجرؤ صحيفة يولاند بوسطن على امتداح هتلر أو التعرض للهولوكوست؟"، بالتأكيد لا يمكنها فعل ذلك لأنه خط أحمر إزاء حرية التعبير، ولكننا في زمن صار من حق الجبنة أن تتطاول على السكين(..)، ورغم أنني أعرف أنه لا يوجد تاريخ سلبيّ بين المسلمين والبلدان الإسكندنافية، فإنني استغرب وجود بذرة العنصرية والحقد لدى شعوب هذه الأرض، التي هبت عليها عاصفة معادية للإسلام غير مفهومة، بدأت بالملكة مارغريت الثانية التي دعت إلى إقامة معارضة شديدة ضد الإسلام ثم دخول البرلمان الدانماركي على الخط بمنح ترخيص للشواذ جنسيا بالزواج في الكنيسة بمباركة بعض القساوسة (..)، ثم المطالبة بحرمان النساء المسلمات من ارتداء الحجاب، وإرغام المسيحيين على وضع قبعة بابا نويل في احتفالات عيد الميلاد، ثم ظهر مالك إذاعة دانماركية خاصة داعيا لقتل المسلمين وهكذا.. إلى غاية "حرب الكاريكاتير".
المفارقةُ عجيبة، ينتصرُ بوتين لمحمّد ويندّدُ بتلك الرسوم المسيئة، ويتباهي زعماء الغرب بحريّة التعبير التي من حقّها تناول المقدّسات.. وينكمشون عندما ينكرُ كاتبٌ الهولوكوست ويعتبرونه إثمًا لا يُغتفر. إنّها أسئلة طُرحت كثيرًا.. وتعود اليوم بأكثر حدّة مع انتهاك صريح لمقدّسات إسلاميّة ومسيحيّة في القدس يُنذر بحربٍ إذا اندلعت لن يوقفها لا ساسة ولا قساوسة وأئمة أو حاخامات!
أردت التذكير بهذا، ليس بهدف تأكيد وجود إسلاموفوبيا فحسب ولكن عندما تغيب الحكمة قد يحدث الانفلات الذي يقود إلى حربٍ.. ولو باردة!