أن تزور سيناء فهذه مغامرة أولى، أما أن تسكن بين هضابها وحول جبالها وسهولها ووديانها، فتلك هى المغامرة الكبرى، تسمع فى الليل صفير الرياح، وعواء الذئاب، وتستمتع برؤية انعكاسات القمر على الصخور الملساء.. يسقط المطر كالسيل، وتشاهد الصواعق والبرق وآيات المولى العظيم، فاسجد للإله شاكرًا، فسبحان الخالق القدير. إنها سيناء، أرض القمر والنخيل، والصقور المحلقة، أرض الغزلان والنمور والأسود، حيث عشب الله يتمدد فى هذا البهاء عبر بريَّة الخلود الكونى. وهنا أنشأ المولى الأبجدية الأولى :«أبجدية سيناء» أقدم أبجديات العالم التى حفظت التاريخ، وكتبت بحروفها أعظم حضارة عربية خالصة.
هنا البحر، أسير معه فى الليل أخاطبه، وفى الصباح تشرق شمس الجمال ليتعانق البلشون فوق النخيل السامق، ويجتمع البدو، وينطلق المزمار، والأرغول والربابة والمقرون، ويبدأ السامر الليلى المهيب حيث رقصات الدبكة والمربوعة والرزعة والمشرقية والهجينى، ويقيم الشعراء مجاراة شعرية تستنطق الفصاحة للشعر البدوى «النبطى» الساحر، ويختلط الكون بالموسيقى مع دندنات العشب وأصوات الطيور المسقسقة من حول الأشجار الممتدة..
معظم طعام البدو فى رمضان يكون من الفطائر المصنوعة من الطحين والسمن، كما تقوم السيدات بإشعال النار فى منازلهن من أجل طهى الفطائر أو الفراشيح، لتكون ساخنة عند تناولها
سيكون لطيفًا جدًا أن تزور سيناء وتستمتع بطقوس شهر رمضان الجميلة، حيث قبائل سيناء وعشائرها وأبناؤها يجتمعون فى الدواوين قبل أذان المغرب ليتناولوا إفطار رمضان بشكل جماعى، الكل يُحضِر من منزله ما طاب من الطعام وحلوى «الزلابية»، لتكتمل المائدة الرمضانية العامرة بكل أطايب الطعام من لحم ماعز وضأن، والفتة السيناوية العامرة بالفطير السيناوى «الفراشيح» التى يغطيها الأرز والمرق والثريد، والكل يأكل فى فرح مستقبلين شهر الخير والبركات..
عادات وتقاليد رمضانية مغايرة
ويسبق إعداد الإفطار إشعال النيران والمواقد المتوهجة قبل الإفطار بساعة حتى يقبل عليها السائرون أو من يكون تائهًا فى الصحراء، ثم تستخدم فى إعداد الشاى والقهوة بعد ذلك.
كما يتولى عدد آخر من الشباب إحضار الأدوات الخاصة بإعداد المشروبات وأهمها: فناجين القهوة وأكواب الشاى، ليتم إعداد «براد» شاى و«بكرج» قهوة، حيث يتم الاستعانة بكبار السن لإعداد القهوة لما لهم من خبرة فى «ضبط مذاقها الجميل».
كما يجتمع العجائز الكبار والشباب والأطفال بعد صلاة العصر ويتناوبون قراءة القرآن واحدًا تلو الآخر فى الديوان، أو المقعد كما يسمونه.
أما الإفطار الجماعى بالدواوين والمقاعد فى العريش فهو من أروع مشاهد ومظاهر شهر رمضان، إذ يجتمع الرجال حول الموائد للإفطار، ولابد أن يحضر كل أبناء العائلة ولا يسمح بالتخلف أو العذر إلا فى حالات المرض الشديد أو السفر، خاصة أول أيام الشهر الكريم، ويفطر كل فرد من العائلة فى الديوان أو «المقعد»، كما يتوزعون على الموائد، وتلك العادة عند البدو لحبهم فى تنوع الطعام ولمشاركتهم الآخرين فى الزاد أو العيش والملح كدليل على التعاون والمحبة كذلك.
طعام البادية فى شهر رمضان
ومعظم طعام البدو فى رمضان يكون من الفطائر المصنوعة من الطحين والسمن، كما تقوم السيدات بإشعال النار فى منازلهن من أجل طهى الفطائر أو الفراشيح، لتكون ساخنة عند تناولها، إضافة إلى الفتة وفوقها الأرز واللوز وحمص الشام واللحم، والبدو -عكس عادات سكان عائلات مدينة العريش- لا يأكلون السمك فى رمضان، ويجلس كل فرد فى أقل مساحة ممكنة حتى يكون هناك متسع لآخرين، ويتم تناول الطعام باليد اليمنى وبدون استخدام ملاعق سوى للضيوف فقط، وأن يتناول كل فرد الطعام من الجهة المقابلة ولا يتعدى على باقى الجهات، وبعد الإفطار تترك المائدة ولا يرفع عنها الطعام حتى بعد صلاة التراويح تحسباً لوصول أى ضيف أو عابر سبيل أو مار على الطريق ولم يفطر بعد.
وتُعتبر هذه العادات نوعًا من التكافل الاجتماعى السامق، حيث يتناول الغنى طعام الفقير ويتناول الفقير طعام الغنى، وعند أذان المغرب يؤدون الصلاة بعد توزيع التمر والمياه والعصائر، ثم يقبلون على المائدة.
آداب تناول الطعام عند بدو سيناء
لتناول الطعام عادات وتقاليد خاصة عند بدو سيناء يجب اتباعها ويلتزم بها الجميع، فالأكبر سناً يجلس أولًا على المائدة، ثم الأصغر سنًا ليكتمل العدد حول المائدة، حيث لا يقدم الطعام للصغار إلا بعد فراغ الكبار من الأكل، ولا يمد البدوى يده أمام غيره، ولا يأكل بواقى الطعام ويأكل بيده اليمنى فقط، ولا يأكل باليسرى، لأى سبب من الأسباب، ويقوم صاحب المنزل أو الديوان بتقطيع اللحم أمام الضيوف.
وحثهم على الأكل فلا توضع كمية كبيرة من الطعام بالفم، ولا يقدم طعام «الكرشة والرأس والأرجل» من الذبائح، كما لا يتناول البدوى الأسماك -قديمًا- لأنها كما يقولون: «دود البحر»، ويعتبر «المنسف» أشهر طعامهم، وتملأ المائدة من اللحم والأرز والخبز، فلا ينثر البدوى يديه من بواقى الطعام العالق عقب الانتهاء من تناول الإفطار، بل يلعق الطعام من الأصابع، وللبدو عادات وتقاليد خلال الشهر الكريم فى المأكل والمشرب.. فالفتة هى الوجبة الرئيسية على موائد الإفطار.. حيث يقوم البدو بتقطيع الخبز إلى قطع صغيرة ووضع المرق عليه والأرز واللحم أو الدجاج وتقديمه طازجًا قبيل أذان المغرب، بقليل كما تتزين مائدة الإفطار فى مدينة العريش بالجرجير، والفجل، والزيتون الأسود والأخضر، إلى جانب العصائر خاصة الخروب المصنع يدويًا، وغير ذلك .
يكون الجلوس للضيوف أولاً، ثم أبناء المكان :«أصحاب الديوان».. مع عدم جلوس الأطفال على المائدة إلا بعد فراغ الكبار من الطعام.
وفى حالة حدوث حالة وفاة خلال شهر رمضان يقوم أهل المتوفى بتجهيز مقعد لاستقبال مشايخ وعواقل البدو، وتجهيز الإفطار لهم لمدة ثلاثة أيام، مدة العزاء.
من آداب وعادات الضيف
للضيف مكانة وأهمية خاصة فى مجتمع البادية، حيث يتم الترحيب به بحفاوة، وتترك له مائدة إفطار خاصة به، كى يتم رفع الحرج عنه، وكنوع من الكرم، كما تقدم له المائدة عامرة بأطايب الطعام، وبعد أن يفرغ الضيف من الطعام، ويشرب القهوة أو الشاى، يقوم بالدعاء لأهل المكان.. ويشكرهم للحفاوة الكبيرة، بينما يقوم أصحاب الديوان بقراءة الفاتحة على أرواح الراحلين، وإهداء ثواب الطعام لهم.
كما تقدم بعد الطعام أطباق الحلويات الشرقية من «القطايف والكنافة والزلابية وحلقة الأصبع وبلح الشام وغيرها»، كما تقدم عصائر الفاكهة على المائدة البدوية السيناوية.
كما تجتمع النساء والفتيات لتناول الإفطار فى المنازل، طوال شهر رمضان الكريم. ولقد بدأت تلك العادات والتقاليد الجميلة تتراجع بشكل كبير، لكنها لا تزال موجودة إلى الآن أيضًا.
وعند أذان المغرب يتم توزيع التمر والمياه والعصائر، ثم يؤدى الجميع الصلاة، وبعدها يقبلون على المائدة. ومع انتهاء الطعام يجلسون لشرب القهوة والشاى الأخضر والأسود.
السامر السيناوى والشعر والغناء
بعد انقضاء صلاة العشاء، ثم صلاة التراويح ، يبدأ البدو فى إشعال النار فى حطب شجر العادر والزيتون والخوخ، ليبدأ السامر بالشعر والغناء، ويبتدئ السامر بالمديح والشعر الدينى، وينشد المنشدون أغانى من التراث البدوى الدينى، الذى يبدأ فيه المنشد بذكر المولى عز وجل، والصلاة على النبى العدنان محمد بن عبدالله أشرف الخلق والمرسلين، ثم يبدأ فى الإنشاد الجميل، ويتم التصفيق بالأيدى، وقد يرقصون بالدق على الأرض كنوع من النشوة والشعور بالسعادة والبهجة «الرزعة» أو «الرزيع»، ويظل السامر ممتدًا حتى قرب موعد السحور، فيرجعون إلى بيوتهم للسحور مع النساء والأطفال.
الديوان والمندرة بالمنازل لاستقبال الضيوف
كما توجد فى كل بيت من بيوت ومنازل مدينة العريش فى الحضر حجرة مستقلة عن المنزل يطلق عليها الديوان أو المندرة أو المقعد، وفى البادية «الشق» المصنوع من الخوص ونبات العادر «عريشة»، والمندرة معدة ﻻستقبال الضيوف والزوار، وفيها يتناولون الإفطار فيأتى الضيف إليها دون استئذان وهى مخصصة لذلك طيلة شهر رمضان، وهنا يتجسد كرم الإنسان العربى الأصيل وتستخدم المندرة مكانًا للتسلية والسمر بعد صلاة التراويح مع تناول الحلوى مثل: الكنافة واللحوحى والمشروبات والعصائر والقهوة والشاى بالحبق حتى موعد صلاة التهجد، وبعد ذلك ينصرفون إلى منازلهم لتناول وجبة السحور التى تتكون من الفراشيح واللبن الحامض «الرايب»، والجبن المصنوع من لبن الماعز.
ولا تشارك النساء الرجال فى حلقات السامر -فى شهر رمضان فقط- بل تقتصر الليالى على المديح، وحضور الرجال والشباب والفتيان من الأطفال الذكور، وليس البنات كذلك
.
عادات الأطفال فى ليالى رمضان
تنتشر فى سيناء الفوانيس المصنوعة من الأقمشة الملونة المعروفة باسم «الخيامية» التى تشتهر بها الأجواء الرمضانية، فيما يظهر الفانوس الخشبى بكثافة، كما توجد حديثًا الفوانيس المصنوعة من الصاج والبلاستيك والملحق بها أغانٍ كما فى كل الأقاليم المصرية الحديثة.
ولقد كنا كأطفال -قديمًا- فى مدينة العريش نضع «شمعة» فى «الكوز» وهو عبارة عن علبة من علب الصفيح من علب السمن أو المأكولات ونربطها بحبل، أو بسلك مقوى، كى نحمل به الفانوس، أو الكوز، ونغنى الأغانى المحفوظة فى كل القطر المصرى:
«حالو يا حالو ..حالو ياحالو رمضان كريم ياحالو، فك الكيس وادينا بقشيش، يا نروح ما نجيش يا حالو».
كما كان الأطفال يغنون قائلين: « وحوى يا وحوى إياحة»..
وهى تحريف لجملة هيروغليفية كان الغرض منها الترحيب بالقمر، فكان المصريون يستقبلونه بأنشودة جميلة عند عودته، وهى «وحوى يا وحوى إياحه»، وتعنى «إكليلاً وترحاباً بمجىء وعودة القمر»، فكان المصريون يتغنون بها كل ليلة قبل ظهور هلال كل شهر، ويحتفلون بظهور القمر نحو اثنتى عشرة مرة فى السنة.
وكان الأطفال يقفون على أعلى تبة رمال فى المنطقة، وعند سماع أذان المغرب فإن الكل يجرى إلى بيته ليخبر الأهل بموعد الأذان.
روحانيات رمضانية وقداسة خاصة
ولشهر رمضان قدسية خاصة، وروحانيات لا غنى عنها فى البادية السيناوية، لما للشهر الكريم من قدسية مميزة حيث تظهر روح التواصل والتكافل الاجتماعى والوحدة بين أبناء القبائل والعائلات، وتضفى قدسية الشهر الفضيل المحبة والمودة بين الجميع، فضلاً عن حرصهم على نبذ الخلافات جانبًا، والاحتفال بشهر رمضان من خلال عادات وتقاليد بدوية موروثة من أسلافهم وأجدادهم منذ مئات السنين، حيث تؤكد على القيم والسلوكيات الحميدة، وكيفية كرم الضيف، والاحترام المتبادل بين الكبير والصغير، والتعاون، وتلك قيم البادية الأصيلة.
هلال شهر رمضان
ولرمضان طبيعة خاصة جداً عند أهل سيناء فهم يستطلعون هلاله من أعلى القمم الجبلية والمناطق الخلوية المرتفعة ومع ذلك يلتزمون بالرؤية الشرعية التى تقوم بها الأجهزة الرسمية بمصر وبالرغم من أن عاداتهم لا تقل أهمية فى رصد هلال رمضان عن الأجهزة الحديثة فلديهم مقولة لم تخطئ أبدًا، وهى أن خامس الصوم صوم، بمعنى أنه إذا صام الإنسان فى العام السابق مثلاً يوم السبت فعليه أن يعد خمسة أيام ليكون الصيام هذا العام الأربعاء مثلاً، وعند ثبوت الرؤية تُعلق الزينات وترفع الأعلام البيضاء للتعبير عن الفرحة باستقبال شهر رمضان.
عدم الزواج أو الخطبة فى شهر رمضان
فى شمال وجنوب سيناء تتشابه عادات البدو كذلك، ومن العادات الصارمة فى الشهر الفضيل توقف المجالس العرفية وجلسات القضاء العرفى فى شهر رمضان، لحرمة هذا الشهر الكريم، وكذلك مراسم الخطبة والزواج قديمًا حيث يتفرغ الناس للعبادة وقراءة القرآن.. كما تقل المشكلات فى أيام الشهر الكريم.. علاوة على أن حفلات الزفاف يتم تأجيلها فى رمضان.. حيث يفضل إقامتها خلال أيام العيد.. بينما يتم عقد القران بدون إقامة أفراح.
توقف القضاء العرفى وفض المنازعات فى رمضان
يمنع أى انسان من الشكوى من الآخرين، أو رفع دعوى للمجلس القضائى فى شهر رمضان، إلا إذا كانت حادثة قتل فيتم فيها رمى ما يُسمى بالوجوه، ثم تؤجل الجلسة إلى ما بعد العيد، وتعنى هذه العادات ألا يتعرض أحد من أهل المجنى عليه إلى أحد من قبيلة الجانى مراعاة لحرمة الشهر الكريم.
إفطار بيت العائلة فى رمضان
من العادات الأسرية، دعوة الأخوة والأخوات والعمات والبنات لإفطار جماعى يوافق أول جمعة فى شهر رمضان تكون فى «بيت كبير العائلة»، وهى عادة يحرص عليها الجميع، رغم أن الرجل يتناول طعامه فى المجلس، إلا أنه يحرص على أن تحضر إفطاره الأول ابنته وأحفاده وعماته، وإذا كانت مريضة أو لا تستطيع الحضور تُرسل لها وجبة إفطارها، وهذا تقليد موجود حتى الآن بين أبناء سيناء من أبناء المدينة والبادية.
وليمة الرحمة
يحرص أبناء سيناء على إعداد وليمة كبيرة يطلق عليها «وليمة الرحمة» فى شهر رمضان، وهى عادة خاصة بأبناء القبائل البدوية، حيث يتم نحر رءوس الماشية والماعز، وإقامة وليمة بنية إفطار الصائمين، ودعوة كل الأقارب والأصدقاء إليها، وتوزيع اللحوم على منازل الفقراء فى الحى..
ومن أجواء رمضان زمان الجميلة يتم تحضيرالإفطار قبل موعد الأذان، ويتم إرسال الأطفال على الجيران، والديوان، بصحون الأكل فيقومون بإرسال صحون إفطار مختلفة من الجيران، ولو وجدت عائلة فقيرة ليس لديها وجبة الإفطار، فإن هذه العائلة يكون عندها قبل موعد الإفطار أكثر من أربعة أصناف من الأكل.
اقرأ ايضا | صور لا تُنسى