رمضان بشكل تاني خارج «قماقم النحاس»

خارج قماقم النحاس
خارج قماقم النحاس

على مر الزمان، تحدد بهجة حلول رمضان، سمات العصر الذى يجىء فيه، منذ العهود الإسلامية المبكرة، حتى العصور الحديثة بمستجداتها التقنية من المصابيح الكهربائية ومكبرات الصوت وظهور الإذاعة والتليفزيون إلى أن نصل إلى عصر وسائل التواصل الاجتماعى.


فى الأزمان البعيدة، كان يوم رؤية هلال رمضان له حضور احتفالى لا تحظى به أيامنا. فى نهاية آخر أيام شعبان، يخرج قاضى القضاة ومعه القضاة الأربعة، والشهود، فى موكب صاخب لرؤية هلال شهر رمضان، وعند ثبوت الرؤية يعود الموكب فى زفة كبيرة. تضاء المشاعل والشموع والفوانيس ويقضى الناس ليلة الرؤية متنقلين بين بيوت الأقارب للتهنئة وفى الأسواق لشراء حاجات رمضان، يطوفون فى شوارع مضاءة بالفوانيس والشموع والمشاعل.


عادات رمضان تتلون بطابع العصر، ولكل جيل رمضانه الخاص، جيل ما قبل الكهرباء والإذاعة، كان رمضانه فى الشوارع، حاملاً الفوانيس منشداً الأغنيات الشعبية، وجيل الإذاعة ارتبط بآذان المغرب بصوت الشيخ النقشبندى وتواشيحه ومسلسلات فؤاد المهندس وألف ليلة وليلة، وجيل الثمانينات والتسعينات تحمل انطباعاتهما صدى فوازير نيللى وشيريهان وألغاز فطوطة. الآن يعيش الجيل الحالى رمضانه الخاص، الذى يشكله طابع العصر، بكل وسائله، بمسلسلات نتفليكس وصخب المولات والمقاهى الحديثة. 


رمضان نفسه الذى نعيشه جميعاً ليس رمضاناً واحداً، فكبار السن من الأجيال السابقة على التليفزيون، سيحافظون بشكل ما على تقاليد رمضانهم الخاص، ففى قلب رمضان العصر الرقمى ووسائل التواصل الاجتماعى، تبقى سمات من رمضانات سابقة، كأنها آثار منقرضة لعصور قديمة. 


تتعدد وجوه رمضان بالنسبة للفرد الواحد. ميزة الشهور القمرية أنها تغير مواقعها من خط الزمان، فلا يحتفظ رمضان بحالة واحدة من حالات الطقس، إنه يتغير مع الفصول، فهناك رمضان الصيف بنهاراته الطويلة المرهقة وليله القصير، وامتلاء الجوامع بالمصلين فى الفجر كأنها صلاة الجمعة، وهناك رمضان الشتاء بنهاراته الخاطفة، التى تغص بالغيوم والأمطار، وليله الطويل وصعوبة إيقاظ الأطفال للسحور.

 
لا مناص من أن يحمل رمضان سمات العصر، وكل جيل جديد ينظر إلى الخلف متخيلاً أن رمضان زمان كان أحلى، وأنه فقد بريقه. لكن الأمر أن لكل عصر بريقه ومباهجه. كل إنسان يشعر بحنين إلى زمنه الخاص وانطباعاته الأولى، فرمضان الذى يتكون مزاجه الآن فى وجدان الأطفال والصبية، سوف يظل مشعاً فى ذاكرتهم، حتى أنهم فى منتصف العمر سينظرون إلى التقاليد الجديدة لهذا الشهر على أنها لرمضان آخر، فقد نزع رمضان طفولتهم البريق عن رمضانهم الحالى.


رغم التنوع والتعدد، إلا أن رمضان يحتفظ داخل تبدل العصور والمناخات بسمات ثابتة ترافقه عبر السنين. أساس الفرحة بقدوم شهر الصيام أنه توقف فى الزمن العادى، وانتقل بنا إلى إيقاع مغاير لحياتنا المعتادة، كأننا ذهبنا للحياة فى زمن آخر.


فى نهار رمضان منذ القدم، يظهر صمت الشوارع فى الصباح وتراخى الحركة، وانخفاض معدل العمل فى المصالح الحكومية، وتقريباً يتوقف العمل إلا الضرورى منه، تُغلق المقاهى والمطاعم، ويُحرم بيع المشروبات الروحية والتدخين، ويبدو الشارع كأن له وجهاً آخر، غير وجهه فى الأيام العادية.


نظام الحياة فى رمضان يجبر الناس على إعادة الاعتبار لأمور تتغطى بالعادية طول أيام السنة. الإحساس بالوقت يتغير، يأخذ ترقب الوقت ومروره حساً آخر فى انتظار مدفع الإفطار، ويصبح مركز اليوم المغرب وليس الصباح كما كان فى الأيام العادية، والليل فى رمضان يصبح له رونق، حيث تتلاقى فى الفضاء أصوات صلاة التراويح ويصبح السهر والتدخين فى المقاهى له بهجة خاصة، رغم أنها نفس المقاهى ونفس التدخين.


فى رمضان يتصل الناس بما حولهم من تغيرات. ينتبهون إلى تبدل الليل والنهار، وصعود الشمس إلى ذروتها فى الظهيرة، ثم بداية اتجاهها نحو الغرب فى العصر. التغيرات التى نراقبها فى أيامنا العادية مستغرقين فى مشاغلنا، يصبح حضورها قوياً فى نهار الصيام. شعورنا بالوقت يتغير ونصبح منتبهين لجريان الزمن، نراقب مروره البطىء بالنهار، ويسرقنا مروره السريع فى الليل. تتثاقل الدقائق والساعات فى أول أيام الشهر الكريم ويبدو النهار، كأنه جبل على المرء صعوده، ومع اقتراب العيد يبدو أن رمضان قد عبر كأنه غمضة عين. 


يعيد رمضان الاعتبار لمباهج الطعام، فانتظار المغرب يجعل للطعام حضوراً مختلفاً عن تناول الوجبات فى الأيام العادية، الانتظار يجعل من بهجة الطعام لون الحياة فى رمضان، وتغتنى حاسة التذوق بتنوع الأصناف والمذاقات، وتصبح صناعة الحلوى عادة يومية فى البيوت. 


مناخ أيام رمضان طيب، تكثر فيه قراءة القرآن فى المواصلات العامة وفى البيوت والمصالح الحكومية. إنه فضاء تتجلى فيه الرغبة فى الغفران والاتصال بالإلهى، الذى يلوح وجوده فى الحياة اليومية، فالسماء ترتبط بالأرض، ليس لأن غروب شمسها يعنى السماح بالطعام، ولا بزوغ الفجر يعنى الإمساك، ولا مراقبة القمر الذى يكبر حتى يصل إلى تمامه فى منتصف الشهر ويبدأ فى الانكماش حتى يتوارى، معلناً مقدم العيد، بل لأن السماء تفتح «طاقة القدر» كممر بين السماء والأرض، لقبول الدعوات وتلبية الاحتياجات وتحقيق أمنيات البشر، فى ليلة السابع والعشرين، كما تقر أغلب الآراء، أو تكون فى العشر الأواخر من رمضان أو فى الأيام الفردية أو فى أى يوم من أيام الشهر الكريم.


الامتناع عن الطعام والشراب وحالة الصيام تبعث فى الأجواء إحساساً روحانياً، يكتمل بتلك العقائد الشعبية القديمة بأن الشياطين والعفاريت والجان تُقيَّد بالسلاسل ويحبسون فى قماقم من النحاس، ويبتعدون عن حياة الناس، وتتسم نهارات رمضان بسلام يخلو من عبثها. لكن ذلك لا يمنع أن تحاول الشياطين التى تسكن الإنسان، تعكير سلام الشهر الكريم بإثارة المتاعب، فينفرط الغضب والعراك خاصة قبل المغرب فى شهور الصيف. إلا أن أيام رمضان تظل، فى الحس الشعبى، خالية من عبث الشياطين، ولا تزال بعض المناطق فى مصر تحافظ على تلك المعتقدات، فبعد صلاة المغرب فى آخر يوم من أيام رمضان، يطوفون فى غرف البيوت، يدقون على الأوانى النحاسية لكى لا ينسل واحد من العفاريت التى حلت سلاسلها ويدخل البيت.

اقرأ ايضا | الأدباء يستعيدون أيام الصبا: رحلة إلى «رمضان زمان»