يوميات الأخبار

وتبقى دائما حاجة

د. مبروك عطية
د. مبروك عطية

ومعنى هذا أن الابتلاء لا يدل على فساد دين المتدين، ولا يدل على غياب الله الذى لا يغيب

كله يهون إلا كذا
هناك بلا شك فرق بين أن تبقى حاجة فينا، وإن ضاع منا كل شيء، وبين ألا تبقى فينا حاجة، ولله در شوقى حين قال:
قد يهون العمر إلا ساعة.. وتهون الأرض إلا موضعا


أى قد يهون العمر كله إلا ساعة فيه، وتهون الأرض جميعا إلا موضعا فيها هو بلا شك وطنك الذى تفتديه بروحك، أو ساعة من عمرك لا تهون بما كان فيها من ذكرياوست علمتك، وأضافت إليك ما لم تضفه السنون الطوال، فماذا لو هان العمر كله بما فيه تلك الساعة، وماذا لو هانت الأرض جميعا بما فيها وطنك الكبير، أو وطنك الصغير الذى هو بيتك، دائما بقاء حاجة دليل على بقائنا، فقد تكون تلك الحاجة هى لب حياتنا، وسر أسرار وجودنا، ولولا تلك الحاجة ما كان لوجودنا معنى، بل ما كان لوجودنا طعم ولا لون ولا رائحة.

وأذكر أن إخوة يوسف عليه السلام حين نادى المنادى قائلا: أيتها العير إنكم لسارقون قالوا لمن وصفهم بذلك: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد فى الأرض وما كنا سارقين « أى كله إلا السرقة، نعم لقد جئنا ببضاعة مزجاة، وطلبنا وفاء الكيل، وسألنا العزيز أن يتصدق علينا، لكن أن نكون سارقين فهذا محال، وتبقى دائما حاجة، وتلك الحالة هى أنه محال أن نسرق، مهما كنا فى حاجة، وقد كنا نسمع أن فلانا هذا تبلغ به الشدة مبلغها، ويصل البؤس به منتهاه لكنه لا يمد يده إلى الحرام.

وقد وجدت تلك الحاجة فى قول الله تعالى من سورة البقرة فى الفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا، وهى أنهم محال برغم فقرهم الصريح أن يسألوا الناس، يقول ربنا تعالى: «للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم» أى تعرف هؤلاء بأنه فقراء محتاجون بعلامات تدلك على حالهم من رثة الهيئة، وضعف القوى، لكن أن يسألوك قائلين لك: أعطنا مما أعطاك الله فهذا محال.

وعليك ألا تنتظر ذلك منهم، فإنك لو انتظرت فسيطول انتظارك، وستراهم ماتوا أمام عينيك من الجوع، وتكون مسئولا عن موتهم أمام الله عز وجل، ولو استطاعوا أن يخفوا عنك موتهم لأخفوه، فالحاجة الباقية برغم ضياع زينة الحياة الدنيا هى عفتهم، وعدم سؤالهم الناس، وقد ألفت الصحابة رضوان الله عليهم إذا أصابتهم مصيبة من مصائب الدنيا قالوا: الحمد لله الذى لم يجعل مصيبتنا فى ديننا، ومعنى ذلك أن الحاجة الباقية هى الدين، فكل شيء يهون ما عداه، وكل مصيبة تحتمل مهما بلغت إلا المصيبة فيه، لأن كل شيء يعوض ما عداه، ومن ثم رأيت فرج الله القريب يدركهم، فيزول كربهم.

وتنكشف همومهم: «وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب» وبفقد تلك الحاجة طال همنا، وأقام فينا كربنا، وبدا أناس حولنا يسألون: أين الله؟

وأين نصره، وأين عونه لنا ونحن مؤمنون به، ونصلى له، ونصوم، ونفعل الخيرات، وكأنهم يزعمون أن قيامهم ببعض ما كلفهم الله تعالى به منجاة لهم من كل سوء، ووقاية لهم من الإصابة بأى ابتلاء، حتى قال ولد تخرج فى جامعة مرموقة لوالدته التى أصيبت بمرض طير: أين عون الله لك الذى تعبدين، وله تصلين، وتصومين.

وتذكريننا به فى كل حين، فلانة التى لا تعرفه، ولا تركع له ركعة صحتها تمام، ونفسيتها تمام، وتنتقل من خير إلى خير، وأنت أيتها العابدة الناسكة الحاجة المعتمرة المتصدقة، التالية للقرآن، الذاكرة المسبحة قد ابتليت بالمرض الخبيث، وطالت علتك، وطالت معاناتك، فماذا قدم الله لك؟ وهى لا تملك إلا أن ترد عليه بقولها: سبحان الله، وأستغفر الله العظيم، لا تقل هذا يا ولدى، وكان عليها أن تقول له: الابتلاء شيء، والتدين شيء آخر، وقد ابتلى الأنبياء.

وزلزلوا كما قال تعالى: وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه نصر الله» ومعنى هذا أن الابتلاء لا يدل على فساد دين المتدين، ولا يدل على غياب الله الذى لا يغيب، ولكنها مسكينة فى العلم، وولدها لو تربى على هذا لما قال لها كلمة مما قال، فتستطيع أن تقول فى الذين خلوا من قبلنا، أصابهم ما اصابهم ولكن شيئا ما بقى، ونحن يجب أن يبقى فينا ما بقى فينا، لأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وقد أصلح ما بقى فيهم كل حياتهم، وهو السلامة فى الدين، ويجب أن يبقى الدين فى قلوبنا سليما حتى يصلح الله تعالى جميع أحوالنا، كما أصلح جميع أحوال سلفنا لأنهم حمدوا الله على مصابهم، فكل شيء عندهم يهون إلا دينهم.


دعوا لى عقيلا


حدث أن اشتد الحال بمكة؛ فلم تمطر السماء، ولم تنبت الأرض، فكان الجدب والبؤس والجوع، وتفكر النبى صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ شاب، ولم يكن قد بعث نبيا فى عمه أبى طالب، حيث كان كثير العيال قليل المال، وذهب إلى عمه العباس رضى الله عنه، وحكى له ما تفكر فيه فى أن يتجه معه إلى أبى طالب ليأخذ كل منهما ولدا من أولاده؛ فيخففا بذلك الحمل عنه، ومدح العباس الفكرة.

وذهب مع محمد ابن أخيه إلى أبى طالب، الذى استمع إليهما، ثم قال: اتركا لى عقيلا، وخذا من شئتما، وكان عقيل أحب أبنائه إليه، أى أن شيئا ما بقى عنده، يتمثل هذا الشيء فى بقاء ولده عقيل معه؛ فأخذ العباس جعفرا، وأخذ النبى صلى الله عليه وسلم عليا، وتركا له من رغب فى بقائه، ولو لم يكن هذا الشيء باقيا عند أبى طالب لما نطق بكلمة، ولتركهما يأخذان عقيلا أو غيره، فرق كبير بين أن يكون لديك غال فى أبنائك، وبين الا يكون، أى يكونون سواء عندك فى حلهم ورحيلهم ومؤكد أنهم عندك سواء فيما لهم عليك من حق، وفيما لك عليهم من حقوق، لكن لاحدهم مكانة فى قلبك لم يصلوا جميعا إليها، ولا يعنى ذلك أنك تظلمهم، وتحابى من تحبه، وأنما قد يكون من تحبه سببا فى أكرامك لهم، بل  قد يكون سبب فى تعلقك بالحياة ،وأرتباطك بها.

بخلاف ما لو كانوا عندك سواء، أقاموا فلا تشعر باقامتهم، أو رحلوا فلا ينتزع رحيلهم شيئا من ضلوعك، فتمسى وسائرك يحن إلى بعضك المفقود، الذى لا يستقر فيك الإ إذا عادوا اليك، فأنت تترقب هذه العودة، وتتطلع اليها فى كل حين، كما يتتطلع الناس خصوصا الأطفال إلى يوم العيد، ترى لو لم يكن فى الأيام يوم عيد فكيف يتأتى هذا التطلع، والحياة بدون تطلع إلى شيئا جميل فيها، أو إلى يوم سعيد من أيامها – رتيبة مملة باردة، كل أيامها سواء لقد كان الرجل فى قريتنا أذا عاد من حقله سأل أبنائه عن أمهم، وقد عاينت بنفسى.

وحققت هذه المسالة ووجدت أنه لم يكن يسأل أبنائه عن أمهم الا إذا كانت غير موجودة، فتاكد لى أن كان لوجودها رائحة تشمها روحه من بعيد، فإن لم تشمها سأل، فيجاب بأنها ذهبت لتحضر ماء، أو ذهبت لتزور أختها المريضة، أو غير ذلك، عند أذا يستدير راجعن، ولا يدخل البيت ؛ ليقعد مع بعض رفاقه على البوابة أى على ناصية الحارة حتى يراها بعين رأسه راجعة من مشوارها، فيهب ليلحق بها، لم يكن ليطيق البقاء فى منزل ليست موجودة فيه، فلابد أن نقول: فى حياة هذا الرجل شيء ما يبقى، وهذا الشيء هو زوجته سر بقائه فى دراه، ومكثه بها.

فإن رأيت الرجل لا يستمتع ببقائه فى بيته إلا إذاصبح يتركها، ويأوى إلى مقهى من المقاهى يجد فيه لذته مع رفاقه، ويطربه صوت الضمنة والشطرنج والصياح والضحك على الفاضى والمليان فقل وأنت مطمئن: لم يعد فى حياة هذا الرجل شيء يبقى، فكل الأشياء عنده سواء، فهو لا يحيا حياة حقيقية، وإنما هو يحيا حياة أسميها حكمية، أى حياة كلا حياة، لا فرق بينها وبين العدم، فهى والعدم سواء، والعدم عند الذين يشعرون، وما زال فى عقولهم إدراك – أفضل من تلك الحياة الحكمية، ولن تكون الحياة حقيقية إلا إذا كان فى حياتنا شيء ما يبقى، حتى ولو ذهب عنا كل شيء، فكل شيء إن كان فى حياة ما يبقى يهون ويعوض، إلا ذلك  الشيء.

وكما أشرت فى تلك اليوميات إلى أنه خير معين على أن ندرك ما ذهب عنا، وأن نجد فى طلبه غير يائسين، لأن معنا الذى يبقى، وهو مدد ومداد، ولعلك رأيت من يتعجل فى الرجوع إلى بيته أو إلى وطنه لأن له فيه من ينتظر عودته، ومن لم يتعجل، فإن سألت الذى لا يتعجل عن سبب بطئه أجابك بقوله: لمن أتعجل، وكم ضرب الناس المثل بالرجل البخيل الشحيح، الحريص على جمع المال، يقولون: لمن يجمعه وليس له أولاد، لو كان ذا أولاد لقلنا: يؤمن لهم مستقبلهم، لكنه بلا ولد، فلم كل هذا الحرص والبخل!


ماذا يبقى فى حياتك


ومن ثمرة التفكر فى هذا الموضوع أن يسأل كل إنسان نفسه : ماذا يبقى فى من صفات المؤمنين، أنا أتطلع إلى أن يقول امرؤ: أنا فى من النقص كيت وكيت لكنى مقيم الصلاة، لا تفوتنى تكبيرة الإحرام على أول الوقت، ويقول آخر: أنا فى من النقص والعيوب ما فى، ولكن يبقى فى شيء محال أن أحيد عنه أنى لا أشهد الزور، وأن يقول ثالث بعد الإقرار بما فى فيه من مجمل العيوب والنقص: لكنى لا أسمح لولد من أولادى أن يجرح، أو أن يشكو الجوع، أو أن يبيت وله حاجة وأنا بهاأعلم ويغمض لى جفن، أو محال أن أسيء إلى جار.

أو محال أن أغتاب الناس، أو أن أرمى محصنة من المحصنات الغافلات، أو أن أتخلف عن إكرام ضيف، لقد وجدت عبارة فى السيرة المطهرة هى أن رسول صلى الله  الله عليه وسلم كان له حزب من القرآن الكريم لا يمنعه مانع عنه إلا الجنابة، وقد ذكرت ذلك فى كتابى (المعهود  عن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم).

أقول ذلك مشيرا إلى الذين لا يتلون القرآن إلا فى رمضان، والذين لا يمسكون بالمصحف إلا وهم فى قفص الاتهام أمام القضاة، والذين لا يحملونه إلا وهم طائفون بالبيت الحرام فى أداء عمرة أو حج، أى الذين يرون الدين حالة، ولا يعيشونه حياة، وهو والله حياة لا حالة، ولو كان فينا شيء ما يبقى لما هان علينا تركه، أما أن تحاسب نفسك أو تتحدث بأمانة عن زوجك أو عن صهرك، أو عن ولدك ولا تجد فيه شيئا يبقى من المعانى، فهو لا يلتزم معنى من المعانى التى تتأسس عليها الحياة فقل على تلك الحياة كلمة أخرى غير السلام.