غربة روح

نسرين موافق
نسرين موافق

ظلت ترددها كثيراً .. يا ولدي …( الغربة تربة ) 
تربة تدفن فيها حياتك … تجمدها علي أمل أن تعود لها يوماً لتستخرجها حية من قبرها ؟! 
كيف ستعيد لها الحياة ، كيف ستعوض ما فاتك ؟ 

حقيقي أن خير الكلام ما قل و دل ، ( الغربة تربة ) مدفن الآمال و المشاعر ، تحتضن كل الأحلام بل و الحياة المؤجلة فيظل المرء يدور فيها في دائرة مفرغة ممزق بين الحنين لدفئ وطن و بين مستقبل يتمني بنائه  في الوقت الصحيح ، وقت يسمح له بأن يعود لينسجم مجدداً في حياته التي ولد بها … و دائما ما يصطدم بتساؤلات صامتة بداخله ، هل سيعود كل شيء لسابق عهده ؟! هل سأندمج مع جذوري ثانية ؟! ماذا سأفعل و ماذا سيحدث لي؟!
الجميع يتمني أن يحقق الرفاهية السريعة ، يذهب لحلم الحياة الأفضل علي كافة الأصعدة ، صحياً ، بيئياً ، مادياً مهنياً و حتي اجتماعياً و الأغلب يصطدم بورطة الغربة في أسرع وقت ، و يصبح الهدف الأقرب أن يحقق بعض اهدافه حتي يعود ، و تتوالي السنون ليصبح اخر الامال أن يعود بأي شكل ، حتي لو ليدفن في ارضه .
فهل أُختصر  الوطن في مدفن كبير ؟! 
الاجابة حتماً لا لكن العالقون في احساس الغربة مشتتون بين حياة بنوها و أخري يتمنوها ، فيصل بعضهم الي أضعف الايمان …. علي أقل تقدير ،أن لا يترك في قبره وحيداً في غربته… ان لا تمتد غربته الي قبره .

عاطفيون نحن بلا شك فما هو الفرق بين قبر هنا و قبر هناك لكن دفئ الوطن حلم و أولوية حتي و إن كان عالقاً في اللاوعي  .
 إن إحساس الغربة عند المصريين مضاعف مهما كان الثمن ، فمهما على قدر المرء  خارج بلده تظل أمنيته أن يعود ليفخر وطنه به ، ليهنأ بحضن أرضه و يزيح عن كاهله غربة تسكن جوانحه كلما غادرها .
الحنين لهذه الارض عجيب حقا … الحنين للطفولة و الصبا ، الحنين للتفاصيل ، المناسبات ، اللهجة و الأكل ، حتي الشعائر فيها له طعم الدفئ .

صحيح الغربة من اصعب الاحاسيس التي يمر بها الانسان ،  احساس بالبروده يجرد الروح من المشاعر ، فيه تترك المألوف للمجهول بطواعية  ظاهرية و قهر داخلي ، فلا احد ابدا يختار ان يهجر نفسه و ما اعتاد ، رائحة بيته و أمه و طعم حياته ، فقط يمني نفسه بالأجمل و بالأمل في العودة . 
إحساس صعب لكن الأصعب منه هو إحساس الاغتراب ، غربة بينه و بين نفسه ، و بينه و بين مجتمعه ، تحرمه التواصل و المشاركة في مناحي الحياة ، تفقده الشغف للقيام بأي نشاط اجتماعي ، فيصبح غريب في وطن و بين أهل  .
ان تشعر بكل إحباطات و وجع الغربة و أنت بين اهلك و علي ارض وطنك لهي الكارثة الأكبر .
أن تكون الغريب بين الأصحاب و الأهل ، لا احد يشعر بك و لا يفهمك بل و لا يكترث لمشاعرك حتي ، أن تمشي بين معارفك لا تقوي علي تجاذب أطراف الحديث أو إظهار ود ، لأنك لا تحتمل أن تبوح أو تتكلم ، بالرغم من أنك تتكلم نفس اللغة و تعيش نفس الحياة إلا أنك الغريب حتي عن نفسك .
الغربة في الوطن أقسي ، لأنها بداخلك و اذا إجتمعت مع غربة الأرض هلك صاحبها من تكالبهما عليه ،كالوحش الخفي يأكل العمر بلا كلل ، يحرق الآمال و الأحلام ، وحش لا يشبع فيأتي علي أي ايجابيه و يحولها لسلبيات تضعف الروح و توهن الجسد .

وحش يجب مقاومته و يمكن القضاء عليه ،   فقط ..اجعل لنفسك موطن اينما كنت ، أسس مكانك ، قرب منك اشياءك و كل ما تحب ، اكثر من مواطن الراحة في نغمة تعيد ذكري مكان ، في صور لأحبة و لوطن ، في طقوس تعتاد عليها تشحن طاقة إيجابية تقاوم بها الغربة داخلياً ، تربطك بموطنك و إن كان بعيداً .

لا تستسلم حتي لو فرضت الغربة عليك … أحط نفسك بكل دافئ جميل ، اصنع لنفسك وطن في قلبك و حتي في غربتك ، ابحث عن حضن كحضن أرضك لا تذق فيه طعم الغدر ، يشعر بك و تطمئن فيه ، ركن فيه ذكريات و رائحة الأمان ، في طعم البيت و رائحته . 
الامان و الاطمئنان كافيان بقتل اي احساس للغربة 
لا تترك نفسك فريسة للوحدة و ان كنت في وسط زحام من البشر و الغربة فتفد حتي روحك في الطريق .
لا تترك نفسك فريسة لاحساس الاغتراب بداخلك قاومه ،فإن فرضت عليك الغربة قاوم الإغتراب و ان كنت في حضن وطنك فانعم بدفئه و ابحث عن حضن بداخله ترتاح فيه من عناء الطريق .