محمد القليوبي
في اليابان، ظهرت فنون تحكي أساطير من حضارة ممتدة لآلاف السنين، فبين ثقافة الساموراي العريقة، وفن الكابوكي المسرحي، يظهر فن بلغ تأثيره العالم أجمع، وأصبح له مريدون في كل قارة، حتى أنه يقام على شرفه مئات المهرجانات الكبرى، والحديث هنا عن فن “أفلام المانجا” أو “الأنيمي”، وهي أفلام الرسوم المتحركة التي باتت سفيراً فوق العادة للثقافة والمجتمع الياباني.
ميلاد أفلام الرسوم المتحركة اليابانية ليس حديثاً، بل ممتد منذ بدايات ظهور الرسوم المتحركة في أمريكا، وأوربا، والحقيقة أن منتجي الأفلام اليابانيين وجدوا ضالتهم في هذا النوع من الأفلام إذ إنه غير مكلف نسبياً مقارنة بالأفلام التقليدية بسبب عدم الحاجة لديكورات أو ممثلين، والأمر الآخر هو اتساع أفق الإبداع إلى ما لا نهاية فيمكن رسم وتصميم الشخصيات كما يتخيل الفنان، وما أوسع مخيلة فناني اليابان، وكان أول فيلم رسوم متحركة يتم إنتاجه هناك عام 1917 وهو لبطل ساموراي يقوم بتجربة سيفه الجديد لكن محاولاته تنتهي بالفشل وكانت مدة الفيلم دقيقتين فقط.
في ثلاثينيات القرن الماضي أطلقت ديزني أهم أفلامها “سنووايت والأقزام السبعة”، وتم دبلجة الفيلم للعديد من اللغات منها اليابانية، وحقق نجاحاً مبهراً كان حافزاً كافياً لفناني الرسوم المتحركة اليابانيين لأن يطوروا من تقنياتهم، وجودة أعمالهم، ومن بين هؤلاء كان الشاب الذي درس الطب بجامعة أوساكا “أوسامو تيزوكا”، والذي ألهمته أفلام ديزني لإيجاد طريق يقلل به من تكاليف صناعة الأفلام من خلال خفض عدد اللوحات المستخدمة في المشاهد، والأهم هو تغيير نمط الرسوم نفسها لتأخذ الشكل المعروف حالياً عن الأفلام اليابانية بشخصيات ذات أعين واسعة، وملامح بسيطة لكنها تعلق في الذاكرة، وأصبحت أعمال تيزوكا هي الأساس الذي بنيت عليه أغلب أعمال الأنيمي الياباني حتى هذه اللحظة.
وكانت أهم شخصية يقدمها هي “تتسوان أتومو” أو المعروف في العالم العربي باسم “الفتى أسترو”، وأيضاً اشتهر تيزوكا برسم شخصية “كيمبا” الشبل الأبيض، والذي يقال إن ديزني استلهمت منه شخصية “سيمبا” في فيلمها “الأسد الملك”.
بعد الحرب العالمية الثانية التي إنتهت في اليابان نفسها بأكثر الأعمال الحربية عنفاً في تاريخ البشرية بعد إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية لقنبلتي هيروشيما، وناجازاكي النوويتين، تغيرت المفاهيم ونظرة المواطن الياباني للعالم، وأصبح كارهاً للحرب ومناهضاً لها على مدى عقود، وأصبحت ثقافة الساموراي القائمة على إحترام الآخر هي السائدة بين الأجيال الجديدة، وكانت هناك حاجة ماسة للخروج بأي طريق من الصورة الذهنية عن اليابانيين بأنهم سبباً في الحروب، فأرادوا بدورهم أن تكون ثقافتهم رمزاً للسلام، وكان المخرج هو أفلام الرسوم المتحركة، التي أصبحت تستقي من مئات القصص المصورة التي تسمى “المانجا”، وتحول لأفلام طويلة وسلاسل تليفزيونية، ومن هنا جاء مصطلح “أفلام المانجا”.
في السبعينيات كانت الطفرة التي حققتها أفلام الأنيمي المعتمدة على قصص المانجا أو تلك التي تم إنتاجها بشكل منفصل لتظهر سلاسل أعمال إنتشرت في العالم مثل “مازنجر”، و”جرندايزر”،وهي الأفلام المعروفة باسم أفلام “الميكا”، وسلاسل أخرى مثل كابتن تسوباسا المعروف في العالم العربي بإسم “الكابتن ماجد” ،و أيضاً “دراجون بول”، وأيضاً “وان بيس، سانشيرو، كونان، كاندام، بوكيمون، أبطال الديجيتال، النمر المقنع، روبن هود”، وغيرها من مئات الأعمال التي تم دبلجتها لأكثر من لغة، ونجحت نجاحاً لفت الأنظار في الدول المتحدثة بالعربية تحديداً، والتي أصبحت جزءا من ثقافة و الوعي الجمعي لهذه الأجيال.
في عام 1985 كانت بداية فكرة لظهور استوديو هو الأهم في تاريخ أفلام الرسوم المتحركة اليابانية، وهو ستوديو “جيبلي” الذي أسسه اثنان من أعظم رسامي منتجي الأنيمي في اليابان وهما “هاياو ميازاكي”،و”إيزاوا تاكاهاتا”، وغير هذا الاستوديو مفهوم الأنيمي، وأفلام المانجاً لما بعد، خاصة و بعد النجاح المادي الذي حققته أفلام الاستوديو في سينمات العالم، ويتخذ الاستوديو شعار شخصية “توتورو” من فيلم “جاري توتورو” الذي أنتجه ميازاكي من قبل وأصبح أكثر الأعمال مشاهدة في اليابان، وخارجها، وبعدها خرج الاستوديو بأعمال مثل “قلعة في السماء،كيكي لخدمة التوصيل، الأميرة مونونوكي، بونيو على جرف البحر، عودة القط، آريتي المفترضة”، وهذه الأعمال حققت أرباحا تقدر بمئات الملايين للاستوديو خاصة بعد العرض في السينمات، ثم على منصات المشاهدة الإلكترونية.
على ذكر الحديث حول استوديو جيلبي فقد أنتج الاستوديو ومخرجه هاياو ميازاكي أهم عمل انيمي على الإطلاق، وهو فيلم “Spirited Away” ، وغير هذا الفيلم مفاهيم صناعة الأنيمي للأبد منذ عرضه في عام 2001 ،و يحكي الفيلم قصة شيهيرو الفتاة ذات الأعوام العشرة، والتي تعلق هي و أسرتها في غابة مسحورة، و بعد إختفاء والديها تتفاجاً أنهما تحولا لخنازير، وبالبحث عنهما تجد نفسها داخل مدينة كبيرة مسكونة بالأرواح لتسكن بها، وتعمل كمنظفة في حمام ياباني تقليدي، وتجدها طريقاً لإنقاذ والديها بمساعدة روح النهر،و حمل الفيلم الكثير من الرموز، والثقافة اليابانية التقليدية.
كما أنه لم يكن مصنوعاً للأطفال بل هو لكل الفئات العمرية، وهو ما تسبب في نجاحه الذي وصل لإيرادات 13 مليون دولار في الأيام الثلاثة الأولى من عرضه في سينمات اليابان، وفي الولايات المتحدة حقق الفيلم 234 مليون دولار ليصبح أكثر أفلام اليابان ربحاً، ومنذ تلك اللحظة تغيرت نظرة العالم للأنيمي الياباني، وأصبح النقاد ينظر له نظرة جادة، ويضعه تحت تقييمات صارمة غالباً ما تحقق النجاح المطلوب، مع تفاصيل الرسومات، وحبكة القصص الدرامية.
منظمة JETRO اليابانية للتجارة الخارجية قيمت حجم سوق الأنيمي في عام 2005، ووصل هذا التقييم 2.4 تريليون ين ياباني أو 24 مليار دولار أمريكي، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها قدر حجم سوق الأنيمي الياباني بـ 520 مليار ين، أو 5.2 مليار دولار أمريكي، منها 500 مليون دولار أرباح مبيعات أفلام الفيديو المنزلية، و4 مليارات لصالح تصاريح عرض الأفلام، وتوقعت الجيترو أن يصل حجم سوق الأنيمي لـ100 مليار دولار أمريكي، وهو رقم قريب لما تحققه تصاريح العرض الخاص بالأفلام اليابانية، ودبلجتها خاصة بعد دخول المنصات الإلكترونية عالم المشاهدة، إذ أصدرت نيتفليكس تقريراً في عام 2010 ذكرت فيه أن نسبة مشاهدة أفلام الأنيمي خلال الفترة الاخيرة وصلت لـ 100مليون مشاهدة لعمل أنيمي واحد، وهو رقم ضخم يدل على مدى نمو هذا الفن الذي اصبح صناعة تمثل دخلاً قومياً هاماً لدولة بحجم اليابان.