كتبت : منى أبو النصر
ولو خشيت الغرق فأنت غارق لا محالة
ولو وثقت من قلوعك فأنت غارق لا محالة
ولو سبحت سبع بحور لن تصل..
أبحر إلى البحر الذى تجهله تصل
فلا عبور إلى النجاة فى السبل التى نألفها..
كم من المشاق نلاقيها فى سبيل الامنيات العامة والخاصة، نعم فللأمنيات ثمن غالٍ لابد من سداده، وما بين الذاكرة والحلم، يدور عالم رواية سبيل الغارق الطريق والبحر للأديبة ريم بسيونى والصادرة عن دار نهضة مصر للنشر.
رواية تقودك فى وقائع التاريخ المنفصل كما قد يبدو لك، ولكنه متصل بنتائجه
وتبعاته وتكرار شخوصه بشكل أو بآخر، لتتعرف على الهزيمة الإنسانية بلمسات سرد لا تخلو من حكمة وصوفية وتاريخ، فلا سكينة دون سلام مع الماضى كما قال أحد الأبطال الذين يقفون على مفترق طرق مألوفة وبحار مجهولة.
تبدأ الرواية بمشهد ربما يأخذك لحكايات ألف ليلة وليلة حيث الشاطر حسن وأميرته ست الحسن والجمال ابنة السلطان،
والاختبار الصعب للشاطر حسن بعد أن يُعلن السلطان تزويج ابنته المريضة لمن يصل لسر علاجها، يستمع الشاطر حسن خلسة ليمامتين تقول إحداهما للأخرى: الو أكلت الأميرة، ست الحسن والجمال، قونصتى وكبدك لنجتب فيغلبه العشق ويذبح اليمامتين، ليُهرول إلى سلطانه بما يُشفى أميرته فيفوز بزواجه منها،
ورغم أن هذا الفوز لم يُسقطه فى غياهب الغرق والهم الأبدي، فإن لعنة الذاكرة ترافقه وتشكّل جدلاً حاداً بينها وبين الحلم، فبعد ذبحه اليمامتين غدراً: ايقول الشاطر حسن إن الذاكرة مؤلمة، ووجعها أسوأ من الذلب، فعندما تُذكّره اليمامة بانتصاراته، يدرك مدى عجزه وقلة حيلته. فى البداية توسل إلى اليمامة أن تبقى على الذاكرة. ولو أبقت عليها فسوف يتذكر عمره الطويل والسبل التى غزاها بجيوشه وخرج دوماً سالماً، ثم تأتى هزيمته فتذله، ولو نسى ماضيه سيسير فى الحياة غافلاً حتى تقع هزيمة فيفيق ويموت آلاف المرات، ثم تسكب عليه ذاكرته كأنها نار فتحرقه وتقتله. يظل الشاطر حسن فى تيه، تلاطمه أمواج الذاكرة والحلم، فشبح اليمامتين، يلازمه ويسكن طوايا جسده وروحه مُتمثلاً فى شيخ حكيم، تسكن فى كلماته فلسفة الرواية حتى نهايتها: "جازف لعل فى المجازفة نهاية لثقتك وأمنك وخوفك ولعنتك. ولو خشيت الغرق فأنت غارق لا محالة، أقلع بسفنك إلى المجهول لعلك تصل."
يزهد حسن فى ابنة السلطان، ليهيم فى المجهول لعله يصل، يستقر عند اسبيل الغارق، وهو سبيل ماء تستقر فى جوفه حكايات الغرقى من أمثاله، وتتكئ الرواية على حكاية تاريخية تذهب إلى وجود سبيل يُدعى اسبيل الغارقب الذى طُمست معالمه عبر الزمن، لكنه يُستدل عليه بقربه من شجرة مريم المُقدسة فى منطقة المطرية بالقاهرة، التى كانت يوماً جهة لحجاج مسيحيى أوروبا، وتلتقط الرواية الحكايات المنسوجة حول اسبيل الغارقب لتجعله رمزاً لإعادة تقييم الإنسان لمسالك حياته، كما لجأ إليها الشاطر حسن وهو يُفكر فى أمر روحه ومسلكه: ايُحكى أنه سأل اليمامة بعد مئات الأعوام، متى تتوقف عن تعذيبه، فقالت: هى أيام معدودات، وانتصارات صغيرة... يبقى انتصارك غير مُكتملب، ولأن العمر قصير فقد تناثرت أوجاعه داخل أرواح أخرى عبر الزمن، وذلك فى لعبة سردية صنعتها الكاتبة ريم بسيوني: "ظهر الشاطر حسن مرتين، مرة فى عام 1509 فى عهد السلطان قنصوة الغوري، ومرة أخرى بعدها بما يقرب من أربعة قرون فى عام 1882."
وعلى ذلك، تتتبّع الرواية سيرة االشاطر حسنب من خلال ظهوره، لكن لعل المرة الأبرز التى تحتل الموقع الرئيسى من أحداث الرواية هى عبر حكايته فى نهايات القرن التاسع عشر بوصفه احسن الخادمب، الذى تُصوره الرواية على أنه شاب داكن السُّمرة يحمل على كتفيه إرثاً طويلاً من العبودية، ينشأ فى كنف أسرة ميسورة، وظيفته الأولى هى رعاية الابنة اجليلةب وملازمة خط سيرها، فتكون له است الحسن والجمالب، ولكن مشاعره هذه المرة مرهونة بظرف سياسى وتاريخى عاصف، تتداخل فيه مشاعر الحب بالثورة الاجتماعية الفارقة التى تكون فيها اجليلةب واحدة من نواياها، بعد أن ساقها القدر لتصير أول طالبة مصرية فى مدارس البنات التى أُنشئت بأوامر من الخديو إسماعيل، وتضطر عائلتها لقبول هذا الأمر الذى كان مسيئاً لهم اجتماعياً فى هذه الفترة ويهدد مصير ابنتهم فى الزواج، ولكن جليلة تستكمل تعليمها حتى تصير مُعلمة فى تلك المدرسة ومن بعدها كاتبة مقالات يغلب عليها الحس المُدافع عن حقوق المرأة وتعليمها فى هذا الزمن الصعب، ويعايش احسن الخادمب ثمن ما تدفعه اجليلةب من أجل رسالتها، ويُكابد مشقة الدفاع عنها فى مواقف مختلفة، لكن الأكثر ما كان يُكابده من عشق مكتوم لها "كان مريضاً بلهفة لا تزول وتوق لا ينقطع، أدى المرض إلى وهن جسده وشق روحه".
يتشرب احسن الخادم فلسفة الغرق كما الشاطر حسن، بعد أن يُلازم الشيخ الزمزمي المُرابض لـاسبيل الغارق، الذى يُحدِّثه طويلاً عن البحر والطريق ومسالك النفس، وفى لحظة مُكاشفة نادرة تتوق جليلة المتعلمة أن تستمع من خادمها الخانع الصموت وهو يُلقنها عن العشق ما لم تسمعه يوماً: االلهفة يا هانم كالموت، تُصيب كل قلب على حدة، لا يوجد شوق كشوق ولا عشق كعشق، كما لا يوجد كف مطابق لكف، ولا ألم مطابق لألمب، فيرقّ لها قلبه فى تلك اللحظة، حتى تُبدل مفارقات سردية من حال علاقتهما كسيدة وخادم، فى ملابسات عاصفة بعد قصف الاحتلال الإنجليزى لمدينة الإسكندرية واحتراقها طيلة ثلاثة أيام، وإحاطة مصر بأربعين ألف جندى بريطاني، وانهزام الزعيم أحمد عرابي، وفى قلب هذه الهزائم، يلتقى احسن الخادمب عند حُطام قلعة قايتباى السكندرية عجوزاً إيطالياً يعدّه العابرون مجنوناً، ولكنه يعطى حسن رسائل خاصة بأحد من تجاسروا للبحث عن الطريق فى زمن آخر، لتفتح أمامه تلك الرسائل آفاقاً وغُرفاً تاريخية بعيدة، وهى رسائل خاصة بأحد تجار البندقية التى يحكى بها عن تواصله مع السلطان الغورى فى مصر أوائل القرن السادس عشر ليُنقذ تجارة مصر والبندقية من البرتغاليين، وكيف دعوه ومن معه من تجار البندقية لحفر قناة تربط البحر الأحمر ونهر النيل لتختصر طريق السفن، وتقضى على طريق البرتغاليين الجديد الذى اكتشفوه حول رأس الرجاء الصالح فتسببوا فى كساد بضاعة أهل البندقية... لتفتح الكاتبة بهذا المسار التاريخى حول الصراع على البحر وشق طريق جديد للخلاص، مجازاً لفكرة الغرق والهزيمة والحلول الصعبة التى قد تُجنب أهلها الهزائم، أو كما يقول احسن الخادمب: "الغرق ليس دوماً تحت المياه، أحياناً يكون من هواء نتنفسه، وسفن أجنبية تحاصرنا، ولهفة لا تزول، ويأس لا ينتهي."
المصدر : جريدة اخبار الادب