من الأشياء التى ألاحظها فى الحياة الأدبية، أن كل أديب يريد أن يكون الآخرون مثله . لا أقصد فى الكتابة، لكن فى السلوك فى الحياة الأدبية . لايدرك الكثيرون أنهم مختلفى الأعمار والاتجاهات والقدرات وظروف الحياة . الكاتب الذى فى الستين ليس مثل الكاتب الذى فى الأربعين أو أقل فى انتباهه لما حوله. يمكن جدا للكاتب الصغير أن يقرأ كتابا كل يوم، بينما من تقدم به العمر قد يضيع يومه فى الشرود. والذى يتابع الحياة الأدبية قد يشعر كثيرا بالذنب بينما غيره قد لا يشعر. الذنب حين يقدم إليه كاتب صغير كتابا ولا يقرؤه . هنا يلعب النسيان دوره أحيانا. ليس كل المتقدمين فى العمر فى شجاعة القول أننى لم أعد قادرا على القراءة . والحقيقة أن كاتبا مثلى لم يعد قادرا على القراءة كما كنت زمان. زمان كنت أقرأ ولا أعلق أو أقول رأيى لأنى منذ وقت مبكر جعلت بينى وبين النقد الأدبى حاجزا . كتبت فى شبابى مراجعات كثيرة ربما كانت أسبوعية فى صحف مصرية وعربية، ولم يدرك أحد أنها كانت وسيلة من وسائل الحياة . فالعائد المادى من نشر المقال أسرع من نشر القصة لأنك لن تكتب القصة كل أسبوع . أذكر أنى يوما عام 1978 كنت أحلم وأتمنى أن أتوقف عن نشر المقالات لأنها تلهينى عن الحرية فى أن أقرأ فقط !. أجل الحرية فى أن تقرأ فقط ، أرحب من الحرية فى أن تقرأ لتكتب . وحدث أنى سافرت إلى المملكة العربية السعودية ذلك العام وعدت بعد عام واحد وقد توفر معى عشرة آلالف جنيه، وضعتها وديعة فى البنك، وكان عائد الوديعة ذلك الوقت قد وصل إلى حوالى عشرين فى المائة فجأة. آخر سنوات السادات ولا أذكر السبب الاقتصادي، وهل كان منافسة لظاهرة توظيف الأموال، أم غيره ، فقد عاد كل شئ إلى ماهو أقل، وحدثت فى الاقتصاد تغيرات عنيفة أو ألعاب شديدة لا أعرف، أو أعرف ولا أهتم . المهم كنت أذهب إلى البنك فى وسط البلد أحصل على العائد الشهرى وأعود إلى بيتى فى امبابة، وكان أهم ما أفعله أن اشترى جمبرى وقاروص من بائع سمك يقف فى شارع قصر النيل قريبا من جروبى ، وكان طازجا ويبيعه أرخص من سعره فى سوق المنيرة فى امبابة . كان شراء الجمبرى والقاروص له طعم الفرحة أنى لم أعد أكتب المقالات مضطرا للحياة. انتهى ذلك طبعا بسرعة وعدت إلى كتابة المقالات . انتقلت إلى الكتابة فى الشأن العام أكثر فلم أنفصل عنه فى حياتى . لكن مع الزمن أصبح لدى شعور بالذنب إذا لم أكتب عن كتاب قرأته، خاصة إذا أهدانى الكتاب صاحبه. هذه لا ترجع إلى أى شىء أدبى فلقد عرفت كاتبا كان أكبر منى فى العمر ويسبقنى فى الكتابة، ما أكثر ما أخذته إلى معرض الكتاب فى سيارتى زمان، وكان يعود محملا بالكتب المهداة إليه، ثم يتركها فى سيارتى وينزل عند بيته، ولما سألته مرة لماذا تفعل ذلك أشار لى بمعنى اماتوجعش دماغك . الصدفة جعلتنى أراه على المقهى حين يقابله أحد من أهداهم الكتاب الذى صار عندى، وكيف يحدثه عن روعة الرواية أو المجموعة القصصية أو الديوان! . كيف اتسق مع نفسه هكذا ؟ لا أعرف . كاتب آخر كان أجمل اتساقا فهو يقول لمن يريد أن يهدى إليه كتابا أنه للاسف لم يعد يقرأ . لا يكذب فلقد تقدم به العمر وهذا حقه . حكى لى ذلك أحد الشباب فقلت له إنه أفضل كثيرا وجدير بالاحترام، لكن ليس الجميع فى قدرته على الصراحة . كان تعبى مع الكاتب الأول فى أنى وأنا أتخلص من الكتب التى تركها فى سيارتى لأنها عندى أيضا، اضطر إلى قطع الإهداءات التى على صفحاتها، ولا أفعل كما يفعل البعض الآن حين يجدون كتابا عليه اهداء فينشرون ذلك ويفضحون من تم الإهداء إليه لا أدرى لماذا. لذلك حرصت حين آخذ كتاباً على المقهى من كاتب ألا أنساه، وللأسف حدث ذلك مرتين فلقد صرت أنسى وشرحت ذلك بوضوح لصاحب الكتاب أو صاحبته ، ثم الحمد لله لم أعد أذهب إلى المقاهى أو الندوات ولا آخذ كتبا فى الطرقات. لقد صرت أنسى مافى بيتى فمابالك بالطريق العام . تغيرت الدنيا وأصبحت الكتب يمكن أن تصل إليك عن طريق الرسائل الخاصة فى الفيسبوك أو الإيميل، وكل كاتب يرسل رسالة لابد لا يدرك أن هناك غيره يرسلون بالعشرات، مما جعلنى أضطر أن أكتب على صفحتى اعتذارا عن القراءة لأسباب تتعلق بالعمر والنظر والانشغال بكتابة رواية أو بأسئلة قد تكون محبطة لصغار السن، على رأسها سؤال مامعنى مافعلت أو قدمت إلى هذا العالم، وكل شيئ حولك إلى انهيار أو تأخر؟. رغم ذلك أحيانا أجد نفسى راغبا فى كتابة تعليق على رواية اسعدتنى لكاتب، والأهم أنى أراه مظلوما رغم كتاباته، ويتحول اليوم إلى عتاب على الخاص لأن عشرات أعطونى كتبا، ويتحول إلى زحام من الرغبة فى توصيل الكتب اليّ أنا الذى لا أعرف
أين أضعها . تظل أمامى على المكتب أسبوعا ثم أرفعها إلى الدولاب متخيلا أنى قرأتها . حدثت الشاعر صديق العمر عبد المنعم رمضان مرة فى المسألة، فقال لى طبعا لأن كلمة منك تختلف وتؤثر وهم لديهم عشم كبير ومعهم حق. لكنى حسدت عبد المنعم رمضان الذى ليس له حساب على الفيسبوك. كثيرا ما فكرت أن ألغى الحساب، ليس غضبا لكن بحثا عن النسيان لكنى لا أفعل . تغيرت اتجاهاتى فى القراءة، فلم يعد احساسى بمايضيف إليّ من قراءة القصة أو الرواية موجودا. انتقلت إلى قراءة الكتب الفكرية وأحيانا النقدية وهى قليلة . لكن يداهمنى الإحساس بالذنب تجاه كل من أهدانى أو أرسل لى عملا رغم أن هناك أيضا كثيرين صراحة لا يسألوننى عن رأيي. أتذكر مايحدث عادة من الكتاب للنقاد بعد أن يصبح الكاتب مشهورا فى الحياة الأدبية . كثيرون يتنكرون لهم ويصبح كل مافعله النقاد لا معنى له، بينما كان المبدع فرحا به جدا فى بداية حياته . هذه عادة رأيتها من الكتاب أو أكثرهم من زمان وهى مستمرة فى التاريخ، ولن أضرب الأمثلة . لكن هذا لا يشغلنى فأنا لا رؤية نقدية لى ولا مشروع . أنا رجل تتحرك روحى مع كتاب قرأته والسلام، وأعيش على النسيان . النسيان الذى جعلنى لا أكتب هذا المقال إلا بعد حلم غريب رأيت فيه الكاتب حسن عبد الموجود الذى ذكرنى منذ يومين بالتليفون بكتابة المقال الشهري، يسألنى هل نسيت المقال؟ . صحوت من النوم ونظرت حولى فعرفت أن اليوم هو الإثنين والفرصة باقية. نظرت حولى إلى جدران الغرفة لا إلى نتيجة حائط . كيف تذكرت الزمان وأنا أنظر إلى المكان؟ .
لا أعرف . وهأنذا أكتب المقال فى موعده ولتحيا الأحلام ذاكرة النسيان .
المصدر : جريده اخبار الادب