رجاء النقاش يقدم الأسلوب الأمثل للاحتفاء بأمير صاحبة الجلالة

أسمهان مع أمير صاحبة الجلالة محمد التابعي
أسمهان مع أمير صاحبة الجلالة محمد التابعي

فى عام 1987 تلقى الناقد الكبير رجاء النقاش دعوة للمشاركة فى الاحتفالية التى أقامتها مدينة المنصورة لتكريم اسم أمير صاحبة الجلالة الصحافة الأستاذ محمد التابعى لكنه أصيب بوعكة صحية منعته من الحضور، وكتب بعدها مقالا فى مجلة " المصور " بعنوان " مطالعات وتأملات حول مهرجان التابعي" يحدد فيه الأسلوب الأمثل للاحتفاء بالنوابغ وفى مقدمتهم محمد التابعى بدلا من الزغاريد والأناشيد كما يقول فى المقال !، يقول رجاء النقاش فى المقال : احتفالنا بالنبوغ والنابغين لا يتعدى أن يكون نوعا من " الموالد " التى نملؤها بالزغاريد والأناشيد ثم ينقضى "المولد " وينفض، ونخرج منه كما يقول المثل الشائع (بلا حمص).. والسبب فى ذلك أننا نهتم بالجانب الإعلامى وحده، والإعلام بطبيعته قصير النفس، يعتمد على السرعة والتناول العابر للموضوعات المختلفة، وعندما نكون أمام حالة الأستاذ محمد التابعى عميد الصحافة العربية الحديثة وأستاذ الأساتذة، فلابد أن نسأل : ماذا يعرف عنه الجيل الجديد، أو الأجيال الجديدة المتتابعة ؟ ويجيب " النقاش " قائلا : لا يكفى أن تقرأ الأجيال الجديدة تاريخ محمد التابعى، وأن تعرف مكان مولده، والمناصب الصحفية التى تولاها، ولا يكفى أن تكون هناك دراسة عن حياته مثل التى نشرها الكاتب الكبير صبرى أبو المجد، كل ذلك ليس كافيا حتى تعرف الأجيال الجديدة قيمته، وتستفيد من طريقته النادرة فى الكتابة، وحقيقة دوره فى السياسة والصحافة، ويكفى أن أقول إن معظم أبناء الجيل الجديد من الصحفيين والإعلاميين لا يعرفون شيئا حقيقيا عن محمد التابعى وكل ما يعرفونه هو اسمه وبعض المعلومات العامة السريعة عن حياته وأفكاره وهؤلاء لديهم عذرهم لأن المسئولية تقع على المؤسسات الثقافية والعلمية التى عجزت عن وضع منهج للاهتمام بالنابغين والاستفادة من جهودهم للأجيال التالية. 

فهل قامت مؤسسة علمية واحدة بجمع آلاف المقالات التى كتبها التابعى فى الصحف لما يزيد على نصف قرن ؟ التابعى بدأ حياته الصحفية ناقدا مسرحيا بارزا، وتميزت كتاباته النقدية بالحيوية، فأين أعمال التابعى فى النقد المسرحى ؟ إنها مبعثرة فى المجلات والصحف التى كانت تصدر فى تلك الفترة، فهل قام المركز القومى للمسرح وهو - مؤسسة علمية وفنية بجمع تلك المقلات النقدية ودراستها وتحليلها ؟.. نفس الخطأ وقع فيه معهد الفنون المسرحية، وقع فيه أيضا قسم الصحافة بكلية الإعلام لأن محمد التابعى ترك النقد المسرحى إلى الكتابة السياسية والاجتماعية وله آلاف المقالات المبعثرة فى الصحف، ومع ذلك لم يخطر على بال المسئولين بأقسام الصحافة بكليات الإعلام أن يكلفوا عددا من طلاب الدراسات العليا بجمع هذه المقالات وتصنيفها ودراستها ونشرها للرأى العام وللأجيال الجديدة وللحقيقة العلمية. ويستطرد رجاء النقاش قائلا فى المقال : لقد اهتم التابعى فى حياته بنشر عدد قليل من الكتب، ولكنه لم يهتم بتجميع مقالاته الكثيرة، وأهم ما نشره التابعى كتابان أولهما " من أسرار السياسة والساسة فى مصر قبل الثورة " والثانى هو " أسمهان " وهما من أجمل الكتب التى عرفتها المكتبة العربية ومن أكثرها متعة وقيمة، وهما حافلان بالوقائع والأسرار التى تتصل بحياتنا السياسية والفنية، ففى الكتاب الأول " من أسرار السياسة " نجد تصويرالشخصيات بالغة الغرابة والتعقيد مثل شخصية أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى فى عهد الملك فاروق، وشخصية الملكة نازلى أم الملك فاروق، والكتاب وثيقة سياسية واجتماعية تكشف خبايا الصراع والفضائح عند الطبقة الحاكمة العليا فى مصر قبل ثورة 23 يوليو.

أما الكتاب الثانى عن " أسمهان " فهو قصة فريدة تصور مأساة هذه الفنانة الموهوبة وتكشف خبايا حياتها المضطربة، أسمهان كانت شخصية عجيبة، كسبت بصوتها الرائع شهرة واسعة، لكنها ارتبطت بمخابرات الدول الكبرى خلال الحرب العالمية الثانية، واتصلت حياتها بقصص حب عاصفة مع شخصيات بارزة فى عصرها، ووصلت مأساتها عندما غرقت فى إحدى الترع وهى فى طريقها لقضاء عطلة صيف فى "رأس البر"، مما دفع الكثيرين إلى القول بأن مصرعها كان مدبرا، ولم يكن حادثا عاديا، ومن المعروف أن التابعى خطب أسمهان وكان بينهما قصة حب شهيرة، ولذلك جاء كتابه عنها قطعة رائعة من الفن الجميل، وهنا نتساءل : أين السينما وأين التليفزيون ؟.. كان من المفترض أن يتحول هذان الكتابان إلى أفلام، أو إلى مسلسلات تليفزيونية ناجحة، للخروج من الدوائر التقليدية والأفكار المتكررة العادية التى سئمنا منها فى العديد من أعمال السينما والتليفزيون، لم يلتفت مخرج سينمائى أو تليفزيونى إلى هذه الإمكانات فى كتابى التابعى وهذا نوع من الغفلة الفنية التى ينبغى أن تنتهى لنفتح أمام فنوننا آفاقا جديدة، هى فى نفس الوقت أقرب الآفاق إلينا وأكثرها تعبيرا عنا. فات الناقد الكبير رجاء النقاش أن يذكر مجموعة الروايات التى كتبها الأستاذ محمد التابعى وتحول بعضها لأفلام سينمائية ومسرحية وحيدة أعدها عزت العلايلى بعنوان ثورة قرية، لكننا نواصل مع رجاء النقاش لنعرف بقية خطوات الأسلوب الأمثل لتكريم أمير صاحبة الجلالة، فهو يستطرد فى المقال قائلا : " شخصية التابعى نفسها من أجدر الشخصيات بالاهتمام، ألم يجد فيها مخرج أو كاتب من كتاب التليفزيون مادة لمسلسل تليفزيونى متميزا ؟ لقد نجحت بعض المسلسلات التى تم عرضها عن جمال الدين الأفغانى وطه حسين،ورغم أن حياة التابعى تختلف عن حياة هؤلاء جميعا، فإنها حياة مليئة بالصراعات والدلالات والمواقف المثيرة، وفيها مادة خصبة لمسلسل ناجح يلقى أضواء كاشفة على كثير من القضايا الحية التى عاشتها مصر والوطن العربى فى الربع الثانى من القرن العشرين، لقد عاش التابعى حياة طويلة عريضة،وشارك فى أحداث كبرى مرت بمصر، وكان يحمل فى شخصيته طبيعة الفنان، فعرف التجارب العاطفية العاصفة،وعرف من أسرار أسمهان مالم يعرفه أقرب الناس إليها، والتابعى كان قريبا من القصر الملكى فى عهد الملك فاروق، وعرف الأسرار والحقائق التى لم تكن ميسورة للآخرين، ولا ننسى أنه قد تتلمذ على يديه كبار نجوم الصحافة أمثال محمد حسنين هيكل وعلى ومصطفى أمين وإحسان عبد القدوس ولهذا فهو عميد وأستاذ للمدرسة الصحفية الحديثة بغير منافس، ويستحق أن نقول عنه إنه كان ولا يزال حتى الآن أكبر مدرسة يمكن أن تتعلم فيها الأجيال الجديدة الكتابة التى يكون لها تأثير عميق على الرأى العام ".

ويقول النقاش عن التابعى : " كان فنانا يشاهد ويسجل ويحسن التعبير والتصوير ويسعى إلى مسرات الحياة بشغف شديد، ولم يعرف المعارضة إلا فى فترة من حياته عمل فيها تحت راية حزب الوفد القديم، عندما كان الوفد حزبا وطنيا متشددا فى مبادئه التى تمثل مصالح الأغلبية الشعبية، وحاول أن يسهم بكتاباته المثيرة فى التحريض ضد أعداء الوطن، والمطالبة بالتغيير إلى ما هو أحسن وأفضل، ولا شك فى أن التابعى كان واحدا من الموهوبين الكبار، ومن الذين ساهموا بموهبتهم العالية فى خلق صحافة وطنية، بل كان رائدا من الرواد الذين حولوا مهنة الصحافة إلى مهنة وطنية مصرية، بعد أن كانت فى معظمها مهنة يسيطر عليها الأجانب والمتمصرون، وهذا وحده يكفيه لكى يكون من الأعلام البارزين فى تاريخنا المعاصر، وواجبنا أن نحتفل بالتابعى وأمثاله من النابغين فى تاريخنا الوطنى، على ألا نكتفى فى احتفالنا بهؤلاء النابغين بالزغاريد والأناشيد المهرجانات والاهتمام الإعلامى السريع، كل ذلك مهم لكنه لا يكفي، فالأمم الحية تحتفل بالنابغين فيها عن طريق إحياء أعمالهم، وبذل الجهد فى تجميع هذة الأعمال وتصنيفها ودراستها وتيسير وصولها للناس، ومثل هذة الأساليب الجدية هى التى تتيح للوطن أن يستفيد من نابغيه وأن يبقى على ذكراهم، وأن يجعل من مواهبهم وقدراتهم على التأثير قوة دافعة ومستمرة من قوى الحياة.

رجاء النقاش «المصور» - 4 سبتمبر 1987