مدارات

دمعة يحيى حقى!

رجائى عطية
رجائى عطية

فى تقديمه لكتابه البديع: «دمعة.. فابتسامة» ـ كتب يحيى حقي: «دلق الزنبيل، أصدق وصف لهذا الكتاب، فهو خواطر متناثرة، فى موضوعات شتى لا روابط بينها، ذكريات وأدب وفكاهة، يمثل كل مقال همومى وقت كتابته، ومن ورائها جميعًا دافع واحد.. عناصر الكلمة، وبحث قلب عمن ينصت لنجواه».
ولكنك على طول وتنوع ما تطوف به مع يحيى حقى فى فصول ومشاهد واسكتشات هـذا الكتاب، لا يمكن أن تعرف هل حقيقة تسبق الدمعة الابتسامة، أم تسلسلك الابتسامة إلى دمعة؟! ومع ذلك فقد وجدت بين فصول الكتاب فصلاً بلا بسمة، كله دموع.. «نكبة روحية».. العنوان الذى اختاره يحيى حقى لهذا المقال الذى نشر بالمساء 11/5/1965.
فى ذلك الوقت لم تكن قد دهمتنا بعد نكسة 1967، ولا كانت قد أدركتنا أغلاط الخلط بين العدو والصديق، ولا كانت شرنقة الاعتياد قد أخذتنا بعد إلى قاع الاستسلام والخذلان!
المقال من وحى حوارات بين يحيى حقى وحسين ذو الفقار صبرى الذى أوفد فى أوائل ستينيات القرن الماضى على رأس بعثة صغيرة تزور بلادًا عديدة ـ لتشرح قضية العدوان الإسرائيلى على الشعب العربى فى فلسطين! 
فى تضاعيف الحوار، كيف ومنذ الشباب ساقت دراسة اللغات وكثرة الترحال، إلى آفاق بدت أكثر اتساعًا، انهدمت فيها الحدود بين الأقوام، فى حاضرها وماضيها، وضمت فى ركب واحد الأشباه والنظائر.. ركب دعاة الفضيلة والهداية إلى رب خلق الجميع لميعاد هداية لأرواحهم التى هى قبس من نور الله، وَرَكْب المجذوبين الذين اجتباهم الفن فكرهوا الدمامة وعشقوا الجمال إلى حد الوله.. فى ظلال هذين الركبين انهدمت الأسوار عند المتحدث بين الأديان واللغات والأجناس والأوطان.. يحلم بجنة لجميع المؤمنين الصالحين من كل ملّة، فرحمة الله أوسع من كل ظن.. بلغة واحدة وجنس واحد هو الإنسان. مضت أحلام الوجدان الغض ترفع الحواجز والحدود، وتلغى الأسلحة والجيوش والحروب، وتفتح آفاق الحركة والترحال بلا دفاتر ولا استبدال نقود ولا جوازات مرور!
أغمض المتحدث عينه على هذا الحلم، ولكن حين فتحها باغتته العنصرية تعود فى أبشع صورها فتؤسس إسرائيل، التى وحدت بين الجنس والدين، وتراهما شيئًا واحدًا هو وحده الذى يعطى الانتماء إليها. رفس اليهود النعمة التى أطلت بالاندماج بلا اضطهاد فى الشعوب التى يعيشون بينها، وأبوا إلاّ أن ينفصلوا ليقيموا إسرائيل فى فلسطين على جثة وطن وشعب!     
لم تنته هذه الدمعة إلى ابتسامة ، ولكن فى اسكتشات الكتاب دموع آلت إلى بسمة.. ولكنها بسمة سخرية من غرور النفس البشرية التى تتخيل أن كل ما فى الكون قد خُلق من أجلها، أو أن الإنسان قادر على تغيير الكون أو خلقه فى صورة أخري.
عن تركيا التى خدم بها من 1930 حتى 1934، يحدثنا أنه وجد نفسه يعيش وسط شعب غريب يجمع بين المتناقضات: القوة والرقة ـ عيونٌ بعد أن تُبرق بلهيب النمر الجائع تترقرق فيها السماحة وحب الدعابة.. أكثر ما لفت نظره هزء نكاتهم الشعبية بالوعاظ ودعاة الفضيلة والكرم وبالوعود المحمولة على الغد لا اليوم.
من أغرب الخُطب المنبرية التى كانت أعجب ما استمع إليه فى حياته، خطبة إمام مسجد «بوكسيك كالدريم» فى استنبول، أعجب به فى البداية وهو يُعَلّم المستمعين أن الإسلام إذا كان يحض على النظافة، فإنه أشد حرصًا عليها عند ارتياد المساجد. ولكن الذى لفت نظر يحيى حقى أنه أضاف أن «التعطر» من مقتضيات النظافة، وعزاه إلى ما يعلمه من غرام الأتراك بالورد غرامهم بالزهور عامة، ولكن تحفظه قد تحول إلى ذهول حين سمع إمام المسجد يستطرد قائلا: وإعانةً لكم على اتباع تعاليم الإسلام، قد أعددت لكم زجاجات من عطر الورد مضمونة غير مغشوشة، تجدوننى واقفًا بها على الباب عند خروجكم بعشرة قروش ليس إلاَّ. وسرعان ما اختلطت الدمعة بالابتسامة!!!