كتب :محمد بركات
إذا أردت أن تسمع القرآن الكريم بصوت منضبط تمامًا بنسبة مائة في المائة، فعليك أن تسمع الشيخ محمود خليل الحصري، واحد من أشهر قارئي القرآن وأحد أقطاب التلاوة والترتيل، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم الإسلام كله، شهد له الكثيرون بأنه أفضل من جود القرآن ورتله، فلم يكن مجرد قارئ أو صاحب صوت يهز الوجدان بل كان رجلا يعيش القرآن فيعيش معه من يسمعه، مدرسة فريدة وأحد أبرز عباقرة دولة تلاوة القرآن الكريم، أصغر طفل حفظ القرآن، وأول من التحق بمسابقة الإذاعة المصرية، يرجع له الفضل بإعتباره أول قارئ يقوم بتسجيل القرآن الكريم مرتلاً بأكثر من رواية مختلفة بصوته، هو من أسس إذاعة القرآن الكريم، وكانت أول قراءة أذيعت له على الهواء مباشرة يوم 16 نوفمبر 1944م.
ظلت الإذاعة تفتتح برامجها بصوته منفردا لمدة عشر سنوات، وأبقي الله ذكره بالخير وجعل ثناء الناس وإطلاق ألسنتهم بالدعاء له حتى يومنا هذا، ليرتبط اسمه بأفضل الذكر وأحسنه وهو اكلام الله رب العالمينب فلا يذكر القرآن وأهله إلا ويسبق على الألسنة ذكره ويسارع الناس بمدحه والترحم عليه ، وتمر سنوات طويله على رحيله وتبقى ذكراه لا تفارق قلوبنا، ليس يومًا في العام، ولكن عندما نسمع صوته يرتل القرآن، الذى ارتبط به عدد كبير من شعوب وحكام الدول العربية والإسلامية، الذين أحبوه، وكانوا على صلة كبيرة به، فكان الشيخ خليل مقربًا من الرئيس الراحل السادات وعبدالناصر، عرفه جميع الناس في كل الدول العربية والإسلامية، وتعلم على يديه معظم القراء، كان علمًا من أعلام القرآن، ترك لنا تراثًا تستفيد به الأجيال من بعده لعقود قادمة.
قراءات مختلفة
وُلد في سبتمبر من عام 1917 في قرية شبرا النملة التابعة لطنطا بمحافظة الغربية ، كان والده قبل ولادته قد انتقل من محافظة الفيوم إلى هذه القرية التي ولد فيها، ألحقه أبوه بكَّتاب شبرا النملة وأتم حفظ القرآن في الثامنة من عمره، فكانت المعاهد الدينية لم تكن تسمح بقبول الطلاب قبل أن يتموا الثانية عشرة من عمرهم، فظل الطفل محمود مع شيخه ومحفظه بالكتاب وكان يذهب إلى مسجد القرية في صلاة العصر ليقرأ القرآن، فنال استحسان مستمعيه وبدأ الناس يدعونه لإحياء حفلاتهم الدينية ، تعلم القراءات العشر حينما بلغ الثانية عشرة من عمره، ثم بدأ مشواره العملى من خلال تقدمه للإذاعة فى عام١٩٤٤م ونجح في اختبارها، بل كان الأول على جميع المتقدمين، وتم اعتماده للعمل كمقرئ بالإذاعة المصرية، وأصبح مدرسة لتعليم القرآن الكريم، وأعظم ما تركه الشيخ الحصرى إلى جانب أنه ترك المصحف المجود، ابداعه في المرتل عن طريق الروايات التي تركها لنا، وسجل ورش عن نافع، وقالون، وابن كثير، ورواية عمرو الدوري، ولم يأت بعده من قراء من يكمل هذه القراءات، وأبدع في القرآن الكريم، لأن الله أعطى له ملكة الإحساس، في إحكام الرواية، ولن ينسى الشيخ خليل المبتدأ في القرآن الكريم فسجل المصحف المعلم، وهي طريقة تعليم القرآن في الكتاتيب، فإذا صح القول اوهب نفسه للقرآن الكريمب، أطلق على الشيخ الحصرى سفير القرآن وشيخ المقرئين، والعالم المحقق المدقق الأمين، الساطع بالقرآن، ومدرسة الأحكام، والحافظ للقراءات، والمدقق للروايات، وشيخ عموم المقارئ المصرية أحد أعلام الأزهر والإسلام، وكان يتيمةَ عصره ووحيدَ زمانه، ونابغة أوانه، وفريد أقرانه في فن الترتيل.
رحلات قرآنية
قضى الشيخ خليل الحصري جزءاً كبيراً من حياته متنقلا بين بلدان العالم الإسلامي يسمعهم كلام الله تعالى بصوته الجميل وهو يرتل آيات الذكر الحكيم، طاف بلدان العالم الإسلامى فلم توجد دولة إسلامية إلا وقد زارها، وكانت له فيها مواقف رائعة، وترك بها ذكرى حسنة، وزار الشيخ العديد من البلدان غير الإسلامية يسمع جالياتهم كتاب ربهم، أول من بعث لزيارة المسلمين في الهند وباكستان وقراءة القرآن الكريم في المؤتمر الإسلامي الأول بالهند، وعندما كان فى ماليزيا علموا بزيارته، حملوه بالسيارة، وقام بتلاوة القرآن الكريم فى عدة دول أجنبية أخرى كإنجلترا، إندونيسيا، الفلبين، الصين، وكان للشيخ خليل في شهر رمضان المعظم من كل عام رحلات للدول الإفريقية والعربية والأسيوية لقراءة القرآن، وإلى جانب القراءة كان الشيخ يحاضر في كثير من الجامعات المصرية والعربية والإسلامية في علوم القرآن، فقد كان عالما ذا رسالة نبيلة بل هي أعظم رسالة في دنيا العلوم والمعارف لتعلقها بأفضل كلام وهو كلام الله عز وجل، كان أيضا مراجعا لكتاب الله سواء في الإذاعة مختبرا للقراء الجدد أو مراجعا لكتابة المصحف ضمن لجنة مراجعة المصاحف، كذلك ظل شيخا لقراء العالم الإسلامي طيلة عشرين عاما إضافة إلى كونه عضوا في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف.
تلقين الشهادة
صوته المميز الراقى يمتع ويؤثر من يسمعه، فنجح بصوته الجميل فى أن يسلم على يديه عشرات من الناس في أنحاء العالم وكان لسماعهم القرآن منه الأثر الأكبر والسبب الأول في إسلامهم، ففي فرنسا أعلن الإسلام على يديه عشرة فرنسيين أثناء زيارته لبلادهم سنة 1965، لم يقتصر الأمر على إسلام بعض الفرنسيين فحسب ولكن أقدم عدد كبير من الأجانب بالقيام بإشهار إسلامهم، في عام 1973 أثناء زيارته الثانية لأمريكا قام بتلقين الشهادة لثمانية عشر رجلا وامرأة أمريكيين أشهروا إسلامهم على يديه بعد سماعهم لتلاوته القرآن الكريم، وفي عام 1977 كان أول من رتل القرآن الكريم في أنحاء العالم الإسلامي في الأمم المتحدة أثناء زيارته لها بناء على طلب جميع الوفود العربية والإسلامية، فيعد الشيخ الحصرى أول من تلا القرآن الكريم فى الكونجرس الأمريكى، وأذن لصلاة الظهر بمقر الأمم المتحدة، وفي 1978 كان أول من رتل القرآن الكريم في القاعة الملكية وقاعة هايوارت المطلة على نهر التايمز في لندن ودعاه مجلس الشؤون الإسلامية إلى المدينتين البريطانيتين ليفر بول وشيفلد ليرتل أمام الجاليات العربية والإسلامية في كل منهما.
مناصب ومؤلفات
تقلد الشيخ الحصرى عدد لا بأس به من المناصب، فشغل منصب امفتش للمقارئ المصري، وتم تعيينه وكيلا لمشيخة المقارئ، كما شغل منصب مراجعا ومصححا للمصاحف بقرار مشيخة الأزهر الشريف، عين بالقرار الجمهورى شيخ عموم المقارئ المصرية، ونائبا لرئيس لجنة مراجعة المصاحف وتصحيحها بالأزهر الشريف ثم رئيسا لها بعد ذلك، مستشارا فنيا لشؤون القرآن الكريم بوزارة الأوقاف، تم اختياره رئيسا لقراء العالم الإسلامي بمؤتمر اقرأ بكراتشي بباكستان، خبيرا بمجمع البحوث الإسلامية لشؤون القرآن الكريم اهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريفب، كما حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في عيد العلم،أيضاً قام بتأليف عدد كبير من الكتب التى إستعان بها بعد ذلك عدد كبير من المقرئين والمشايخ، فمن مؤلفاته كتاب اأحكام قراءة القرآن الكريم، القراءات العشر من الشاطبية والدرة، معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء، الفتح الكبير في الاستعاذة والتكبير، مع القرآن الكريم، نور القلوب في قراءة الإمام يعقوب، السبيل الميسر في قراءة الإمام أبى جعفر، النهج الجديد في علم التجويد، رحلاتى في الإسلامب، ومنحه الرئيس عبدالناصر وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام ١٩٦٧م، كما نال تقدير الملوك والرؤساء في العالم العربى والإسلامي.
وفاته
بعد أن بنى الشيخ خليل مجمعا دينيا يضم معهدا أزهريا ومسجدا بقريته اشبرا النملةب وبنى مسجدا بالقاهرة.وأوصى قبل وفاته بثلث أمواله لخدمة القرآن الكريم، وفي عام 1980 م عندما عاد من رحلته فى السعودية مرض (كما يحكي أحد أبنائه) وقد زاد عناء السفر وإجهاده من مرض القلب الذي كان يعاني منه، إلا أن المرض اشتد عليه بعد ثلاثة أيام من عودته ونصح الأطباء بضرورة نقله إلى معهد القلب، ثم تحسنت صحته بحمد الله فعاد إلى البيت مرة أخرى حتى ظننا أنه شفي تماما وظن هو كذلك، إلا أنه في يوم الاثنين الموافق 24 نوفمبر عام 1980 م وبعد أن أدى صلاة العشاء مباشرة فاضت روحه إلى باريها بعد أن أدى صلاة العشاء مباشرة، بعد أن ملأ الدنيا قرءانا، فرحم الله الشيخ رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.