فى الفكر والسياسة

مؤسساتنا العامة وإدارة المعرفة

محمد السعدني
محمد السعدني

ثلاثة أفكار جوهرية سادت على مدار العقود الأخيرة، سرعان ما تحولت إلى نظريات وبرامج وتطبيقات أثرت بشكل كبير على مفاهيم الإدارة والصناعة والإقتصاد، وحددت معايير جديدة للتقدم، هذه الأفكار الثلاثة هي: إدارة الجودة الشاملة، إعادة الهندسة، ورأس المال الفكري. وأحسب أنه لا مجال لمشروع علمى للنهضة دون أن يضع هذه الأفكار الثلاثة الجوهرية موضع التنفيذ، وأن يتم على أساسها إدارة وحوكمة مؤسساتنا العلمية والصناعية والاقتصادية.

هذه الأفكار والمفاهيم تحولت إلى آليات إدارة عصرية كونت عصب اقتصاد المعرفة. ولقد توالدت هذه الأفكار واستقرت كاستجابة عملية لمتطلبات العصر وتعقيداته، تماماً كما سبق أن بزغت مفاهيم "الإدارة العلمية" فى بدايات القرن العشرين استجابة لمتطلبات الثورة الصناعية، ويعد صاحبها "فريدريك تايلور" أبو الإدارة العلمية والذى وضع أسسها فى كتابه "مبادئ الإدارة العلمية" عام 1911 وكونت الأسس التى بنيت عليها معظم نظريات الإدارة الحديثة، خصوصاً هذه الأفكار الثلاثة المستحدثة.

الجودة الشاملة هى إدارة استراتيجية تطبق معايير الجودة على كل عملياتوعلاقات الإنتاج سواء كانت صناعة أو تعليما أو خدمات ومؤسسات حكومية. وفى الحقيقة فإن كل مناشط المجتمع وأفراده هى علاقات إنتاج، عناصره البشر ورأس المال والمواد الخام والآلات والمعرفة "العلوم والتكنولوجيا" والإدارة والتسويق. وكما يمكنك تسويق سلعة يمكنك أيضا تسويق مفاهيم وعلوم وتكنولوجيا وسياسات ومعارف وأفكار. 

كان الأمريكى "إدوارد ديمنج" هو أول من طرح فى ستينيات القرن العشرين مفهوم الإدارة بالجودة الشاملة، حيث كل علاقات الإنتاج، مدخلاته ووسائطه والقائمين عليه ومخرجاته جميعها تخضع لمعايير الجودة وتراعى مفاهيم التنمية المستدامة بما تعنيه من بشر وبيئة وتعليم وتدريب مستمر وآليات تسويق عصرية ونظم رقابة ومحاسبة ومحددات إدارة وتقويم وحوكمة. 

أما مفهوم إعادة الهندسة كان أول من وضع ملامحه الأساسية هو الأمريكى "توماس ديفنبورت" في 1990 ولحقه الأمريكيان "هامر" و"تشامبي" بنشر أول كتاب بهذا الاسم فى 1997 متواكبا مع ثورة الاتصالات والمعلوماتية وتكنولوجياتها الحديثة. ويمكن تلخيص ركائزها الأساسية فى أربعة محاور أولها: إعادة التفكير بصورة أساسية فى ماهية الهيئة أو الشركة أو المؤسسة، وذلك فى أن تجيب الإدارة العلمية عن أسئلة مثل: لماذا نفعل ما نقوم به الآن؟ ولماذا نؤديه بالطريقة الحالية؟ وما الذى ينبغى عمله لتطوير الأداء. ثانيها: إعادة التصميم الجذرى لأساليب العمل، وذلك باعتماد منهج التجديد والإبداع والابتكار أساساً لرؤيتها الجديدة. ثالثها: إجراء تحسينات درامية وثورية فى معدلات الأداء مثل التكلفة، الجودة، الخدمة، وسرعة إنجاز العمل. ورابعها هو: إعادة النظر فى كل العمليات التى تقوم بها لتؤدى إلى قيمة مضافة أعلى مما كانت تقدمه من قبل.

أما الفكرة المحورية الثالثة والتى ساهمت بشكل مباشر في إحداث طفرة كبرى فى مجال اقتصاد المعرفة فكانت تتمحور حول: "رأس المال الفكري" حيث أسس لها أكاديمى من هارفارد "توماس ستيوارت" الذى نشر كتابه الهام "رأس المال الفكري: الثروة الجديدة للمؤسسات" في 1997 ضمنه أفكاره التى مؤداها أن الأصول المعنوية للهيئات والمؤسسات من مهارات أفراد وقدرات وخبرات وثقافة وأفكار وقواعد بيانات وأبحاثودراسات وبراءات اختراع وتقنيات، أو ما يطلق عليه الأصول المعرفية أو قوة العقل التنظيمية أو رأس المال الفكري، هى المعايير الحاكمة للتقدم والنجاح، وأن إدارتها هى إدارة المعرفة التى هى عصب الاقتصاديات الحديثة، اقتصاديات المعرفة. إن رأس المال الفكرى هو أشبه ما يكون بالميزانية العمومية غير المنظورة، والتي لا تظهر كأرقام مباشرة فى دفاتر المحاسبة، إنما يستدل على وجودها بما تحققه من قفزات هائلة لمضاعفة القيمة المضافة أو الربحية. من هنا راح أخصائيو الذكاء الاصطناعى فى الولايات المتحدة يعملون على تحويل الخبرة البشرية إلى برمجيات، فيما عكف مستشارو إعادة الهندسة على تحسين سرعة وأداء المؤسسات وتنظيم تدفقالمعلومات والعمل على انتاج وإدارة المعرفة. وهنا يأتى السؤال:هل رأس مالنا الفكرى فى مؤسساتنا العامة قادربحق على إدارة المعرفة فى مشروعنا الوطنى للتحديث والنهضة؟ هذا يحتاج لمقال آخر.