قلب وقلم

ابتسامة الأمين محمود

عبدالهادى عباس
عبدالهادى عباس

«الكمامة يا أستاذ، الكمامة يا أبلة»، «يا جماعة وسعوا الطابور»، تنفر عروق رقبة الأمين محمود عند كل تنبيه جديد، ولكن الأجساد تتلاصق أكثر فى زحام خانق، مؤلم، وكأن الشمس تتآمر عليهم وتأبى الانصراف إلى بيتها وترك رءوسهم بحالها، فينز العَرق ويتكاثر الذباب السمج، ويتمسك الجميع بأماكنهم بكل ما لديهم من صبر وتحمل وكتم للبول الذى لن يجد مخرجا على كل حال، فدورات المساجد مُغلقة، ولا توجد دورات عامة، وتبدو الكورونا بكل مخاوفها أقل رهبة من انقضاء اليوم دونما استخراج الأوراق المطلوبة، تتوالى سهام الصرخات على الأمين محمود الذى يتحرك فى الأماكن كلها، وينبت بلسانه عشرات الألسن الأخرى التى يُجيب بها عشرات المواطنين فى الوقت نفسه، ويُقابل بذاءات من طين الحلق بابتسامة مكظومة، ثم بإجابة عاتبة: شكرا يا عم الحاج، غصب عنى والله، الدنيا زحمة جوه، هانت!
يحتاج التعامل مع الجمهور إلى صبر أيوب وقلب عيسى ورحمة محمد.. وأحيانا كثيرة إلى عصا موسى؛ والمواطنون الذين يذهبون إلى السجل المدنى الرئيسى بالأميرية يعلمون جيدا أسماء: محمود بيه، وحازم بيه، وخالد بيه، كما يعرفون الأمين محمود، وباقى تلك الكتيبة، يعلمون أن هنا رجالا يعملون منذ السابعة صباحا حتى السابعة مساء دونما راحة إلا دقائق خاطفة لأداء الفروض، يعلمون أن هؤلاء الرجال يتحملون مئات الأسئلة عن الأوراق المطلوبة التى تتشقق حلوقهم فى الرد عليها؛ حتى إذا توترت أعصابهم من كثرة الترديد والإفهام جاءت زغرودة صافية من امرأة أنهت استخراج قيد ابنها وتصحيح أوراقه بعد شهور لتمسح ذلك الإرهاق المتوتر بأستيكة الرضا عن الإنجاز.
عندما حالفنى الحظ منذ أشهر للاستماع عن قُرب إلى خطاب وزير الداخلية لأبنائه طلاب أكاديمية الشرطة وتأكيده على ضرورة إتقان فن التعامل مع الجمهور وإظهار الروح المصرية السمحة المتعاونة، استبشرت خيرًا فى مستقبل ذلك الكيان العريق، غير أننى كنت أظن أن ذلك يحتاج إلى سنوات للتطبيق فى الشارع حتى رأيت أولئك المناضلين بسجل الأميرية المركزي؛ صحيح أن المكان يحتاج إلى كثير من الموظفين وكثير من الأجهزة لاستيعاب هذا العدد المهول من المواطنين، ولكن ذلك لا يمنع الاعتراف بتلك الثورة فى رقمنة الأحوال المدنية، وأن هناك ثقافة هادئة، رزينة، تتسرب بقوة إلى أوردة رجال الشرطة؛ والأهم: هناك تلك الابتسامة الوادعة للأمين محمود.