من وراء النافذة

ومن خشى العقاب أيضاً ربما أساء الأدب

هالة العيسوى
هالة العيسوى

فى أدب العرب مقولة شهيرة هى "من أمن العقاب أساء الأدب" وتقال غالباً حينما يغتر بعض الناس بالتسامح والرفق والطيبة فيندفعون نحو الإيذاء والعدوان والفساد. لكن واقعتين قريبتين أثبتتا لدىّ أن من خشى العقاب أيضاَ قد يسيء الأدب والتصرف ويتسبب فى كوارث تزهق أرواحاً.
واقعة كمسارى أسوان - الإسكندرية الذى تعنت مع البائعين الشابين وأجبرهما على مغادرة القطار فوراً أثناء تحركه، وبلغ به العنت مبلغه فارتكب خطأً وظيفياً كارثياً بفتح أبواب القطار أثناء تحركه ولم يفكر للحظة فى تداعيات أى القرارين سواء فتح أبواب القطار أثناء تحركه بلا داع ٍ ودون وجود حالة طوارئ، أو إجبار الشابين على القفز أثناء تحرك القطار وما يمكن أن ينجم عنهما. ربما كان كل ما فكر فيه حينها هو العقوبة التى قد تصيبه لو سمح للشابين بالبقاء فى القطار دون تذاكر، واحتمال اتهامه بالإهمال والتسيب وإهدار أموال المرفق الذى يعمل به.
الواقعة الأخرى هى قيام موظفى الأمن بمستشفى قصر العينى بسكب زيت لزج على المقاعد الجرانيت المبنية أصلاً لجلوس المرضى ومرافقيهم، لكن لأن موعد المكوث المسموح به قد فات بحلول الليل، ولأنهم لم يتمكنوا من السيطرة على جموع المرافقين فقد تفتق ذهنهم عن وضع العراقيل أمام المرافقين بسكب الزيت لمنعهم من الجلوس ولم يبالوا بما يمكن أن يسفر عنه هذا التصرف من إتلاف للمقاعد التى تكلفت الملايين ولا بتكلفة إزالة آثار عدوانهم الغبى على ممتلكات قصر العينى. كل ما فكر فيه هؤلاء هو تنفيذ الأوامر الصادرة لهم بصرف الناس من المكان مع حلول المساء دون النظر لاستمرار بقاء ذويهم بالداخل لتلقى العلاج.
بعيداً عن وصف المتسببين فى الواقعتين بانعدام الإنسانية والعصبية والتعنت فى استخدام السلطة، إلا أنك لو نظرت عميقا إلى الحالتين لوجدتهما تعكسان ضعف المنطق وقلة الحيلة، فضلاً عن غباء وجهل شديدين. فلا خبرة بإدارة الأزمات أو التعامل مع المواقف الطارئة لاسيما متكررة الحدوث منها كوجود الباعة الجائلين فى القطار أو تواجد جماهيرى كثيف فى أماكن الانتظار. هذا يعنى أن رؤساء تلك القطاعات وغيرها لا يختلفون عن مرؤوسيهم فى ضيق الأفق وقلة الحيلة وكل ما يفعلونه هو إصدار الأوامر الصارمة مع التهديد بعقوبات مغلظة لمن لا يتبعها من الموظفين، دون توجيههم لأساليب التصرف السليم فى مواقف بعينها. وهؤلاء الموظفون بدورهم يتسمون بالجهل الشديد وعدم التدريب.
السادية التى يمارسها هؤلاء المتنفذون الضعفاء فى مواجهة الجمهور الأضعف منهم تعكس هشاشة فى شخصياتهم تتجلى فى الزهو بسلطة متواضعة يمارسونها فى عنت غريب تجاه من هم أضعف منهم أو أحوج إليهم وكأنهم يفرغون طاقة قهر مكبوت بنفوسهم من رؤسائهم فينتقمون من الضعيف. وهم فى الوقت نفسه يرغبون فى إثبات جدارتهم عند السلطات الأعلى فيأمنون العقاب وربما يفوزون بمكافأة أو قربى. المسألة كلها تدور فى حلقة الفقر سواء كان فقراً معلوماتيا أو تدريبياً أو اقتصادياً وهو ما ينتج فقر الفكر أو فكر الفقر اللذين رصدهما الأستاذ يوسف إدريس قبل ما يقرب من أربعة عقود.