عطل غير مسبوق أصاب كتالوج الانتخابات

هل تنتهى الماكرونية بسيناريو الحقبة الديجولية؟

ماكرون يواجه دعوات تطالبه بالاستقالة كما فعل الجنرال شارل ديجول
ماكرون يواجه دعوات تطالبه بالاستقالة كما فعل الجنرال شارل ديجول


عطل غير مسبوق أصاب كتالوج الانتخابات بشكل كامل مع ضعف منقطع النظير للمعسكر الرئاسى وغلبة لليمين المتطرف فى جميع طبقات المجتمع وفى جميع إدارات وأروقة الدولة.. هكذا يمكن تلخيص نتائج الجولة الأولى من الاقتراع التشريعى الفرنسي، الذى جرى أول أمس، مع إمكانية استشراف ما يمكن أن تسفر عنه الجولة الثانية يوم الأحد المقبل، وذلك بإجماع الصحف الفرنسية الصادرة أمس.


أراد إيمانويل ماكرون أن يمنح الفرنسيين فرصة استثنائية للتعبير عن أنفسهم، بعد اكتساح اليمين لانتخابات البرلمان الأوروبي، وهو ما دفعه إلى اتخاذ قرار مفاجئ بحل البرلمان وإجراء انتخابات استثنائية، ويمكن القول: إن الرهان الوحيد الرابح لماكرون هو المشاركة واسعة النطاق للفرنسيين فى الاقتراع، إذ صوت 66.7% ممن يحق لهم التصويت. فيما جاء قراره بحل البرلمان بمثابة ضربة قاضية وجهها الرجل بنفسه للأغلبية التى كان يملكها فى البرلمان، مما يضع سنواته الثلاث المقبلة المتبقية فى ولايته الرئاسية فى مهب الريح حيث بات مؤكداً أنه سيصبح واقعاً تحت مقصلة أغلبية معارضة.


منذ عام 1997، لم تشهد الانتخابات التشريعية غير المرتبطة بانتخابات رئاسية، مثل هذه النسبة من المشاركة. وحتى لو كانت هناك أرقام أعلى فى سجل الجمهورية الخامسة التى أسسها الجنرال شارل ديجول عام 1958 (82.8% عام 1978)، فإن هذه النتيجة أعلى بكثير من نسبة الـ 47.5% فى عام 2022 أو الـ48.7% فى عام 2017، وهى السنوات التى أصبحت فيها الانتخابات التشريعية بمثابة جولة ثالثة من المصادقة على نتائج الانتخابات الرئاسية.
فى انتخابات الأحد، تكدست القضايا المتعددة حول مستقبل البلاد فى رءوس الناخبين، فضلاً عن الاستياء من رئيس الجمهورية الذى يتولى منصبه منذ سبع سنوات بفعل وعود لم ينفذها، فتمخضت الجولة الأولى من هذه الانتخابات التشريعية الاستثنائية عن نتيجة ثلاثية الأبعاد للحياة السياسية الفرنسية: حيث تصدّر اليمين المتطرّف بقيادة جوردان بارديلا المرشح لمنصب رئيس الوزراء، بفارق كبير، وقد يصل إلى الحكم للمرة الأولى فى ظل الجمهورية الخامسة، وفق تقديرات أولى لمراكز استطلاع الرأي.
وبحصوله على ما بين 34٫2 و34٫5% من الأصوات، تقدّم التجمع الوطنى وحلفاؤه على تحالف اليسار (الجبهة الشعبية الوطنية) الذى حصد ما بين 28٫5 و29٫1% من الأصوات، فيما حل معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون ثالثاً (20٫5 إلى 21٫5%) وباتت كتلتا أقصى اليمين وتحالف اليسار تحلمان بسحق بسحق كتلة ماكرون فى الجولة الثانية لإخراجها من المشهد نهائيًا.
وبعيداً عن الهزيمة الانتخابية القاسية التى لحقت بالمعسكر الرئاسي، والتى عززتها المشاركة المرتفعة (66.7%،) فإن ما يُطلق عليه الماكرونية، فى جوهرها هى التى تلاشت ذاتياً من المشهد. فحقيقة الأمر أنه تم محو عبارة ماكرون بأن الفرنسيين « لم يعد لديهم أى سبب للتصويت لصالح التطرف»، وهو ما يشمل وصمة عار فى سجله السياسي: يوم الأحد، حصل حزب مارين لوبان وحلفاؤها على ما يقرب من 11 مليون صوت، أى ما يقارب أربعة أضعاف ما حصل عليه فى الانتخابات التشريعية عام 2017 (3 ملايين صوت).. المشهد برمته يعيد للأذهان ما حدث فى مايو 1968، حيث كانت فرنسا تعيش أزمة اقتصادية خانقة، بفعل وجود أكثر من 500 ألف عاطل عن العمل، ونحو مليونى عامل يحصلون فقط على الحد الأدنى للأجور، إلى جانب ارتفاع كبير فى أسعار المواد الأساسية وإيجارات المنازل.
فى ذلك الوقت كان يدير البلاد بطل الاستقلال عن ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية الجنرال شارل ديجول، ولكنه وبعد أكثر من عقدين من الانتصار فى الحرب، وجد نفسه وحيداً فى مواجهة الشوارع الغاضبة من تدهور الاقتصاد وانتشار البطالة.
بداية انهيار المجد السياسى لديجول كانت فى 13 مايو 1968، عندما أُعلن الإضراب العام الشامل، الذى وُصف بأنه الأهم فى تاريخ فرنسا، كونه جعل البلاد تعيش حالة شلل تام لأسابيع، فى حين انتشرت المظاهرات فى الشوارع، وعمت الفوضى البلاد، وسقط جرحى وقتلى فى مواجهات مع الشرطة.
ورغم أن الحكومة نجحت أواخر الشهر فى توقيع اتفاق مع النقابات يرفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 35%، إلى جانب امتيازاتٍ أخرى لصالح العمال، فإن الغضب استمر، مما دفع ديجول لحل البرلمان.


وفى الثلاثين من يونيو 1968، جرت انتخابات برلمانية حقق فيها اليمين فوزاً مهماً، بأغلبية 293 من أصل 487 مقعداً.
ومع حلول أبريل 1969، وفى محاولة منه للخروج من الأزمة السياسية الخانقة، دعا ديجول الفرنسيين للمشاركة فى استفتاء حول إصلاحات تهم مجلس الشيوخ ومشروع اللا مركزية الإدارية، وتعهد بالاستقالة إن جاءت الأغلبية ضده.. كثيرون اعتقدوا أن تعهد بطل الحرب بالاستقالة مجرد وسيلة لاستمالة أصوات الناخبين، خاصة الغاضبين منهم، لكن ديجول نفذ ما وعد به واستقال فعلاً بعدما صوت 52.41% ضد الإصلاحات التى تقدم بها، وتم ذلك فى الليلة نفسها التى جرى فيها الاستفتاء، منهياً بذلك العهد الديجولى وإلى الأبد.. فهل يسير ماكرون، الذى يواجه ضغوطًا متزايدة للاستقالة، على درب مؤسس الجمهورية الخامسة رغم تكراره المستمر بأنه سيبقى فى منصبه لحماية القيم الجمهورية التى باتت مهددة بشكل غير مسبوق بفعل ما اتخذه من قرارات؟