«من نسج الذكرى إلى المجهول» قصة قصيرة للكاتبة ملك ياسر

 ملك ياسر
ملك ياسر

ممددًا بالفراش كنت أنا لأيام، ليست بي الحماسة تجاه أي شيء فقط أطالع هاتفي بين الفينة والأخرى منتظرًا أن أُستدعى لعملٍ طارئ أو قضية أخري ولكن بلا جدوى.

تمر عليَّ ساعات طوال أحدق فيها بسقف الغرفة الخالى من كل شيء عدا خيوط العناكب: تلك التي لم أجرؤ على إزالتها فتزول معها رفقتي الوحيدة في هذا المكان. بالكاد بدأت عطلتي الإجبارية من أيام ولا أكاد أطيقها تمر بهذا البطئ والملل الشديد، ما كنت أحتاجها ولولا ذلك الأحمق المنعوت  بطبيبي النفسي لكنت الآن ألملم أطراف خيط قضية ما.

 مرت ساعات منذ انقطعت الكهرباء والليل أظلم عليَّ أنا وعناكبي، حتى هاتفي خانتني بطاريته وأوشكت على النفاد، وللمرة الأولى من أيام أجدني مضطراً لمغادرة فراشي بحثًا عن شيء يخرس عواء معدتي وإيجاد أي شيء يسرع من مرور الوقت القاتل مللًا.

 

قريتي التي ولدت بها وهجرتها من سنين أجبرت على العودة لها للاستشفاء من إرهاق يدَّعون اني مصاب به، رما انزعج رؤسائي منى لكثرة نجاحاتي أو ربما وشي بي بعض رفقائي في قضاياي إذ أري ما لا يرونه من أدلةٍ تغير مسار القضايا، ربما ظنوني متحذلقاً متعالياً عليهم بعلمي عن أدق تفاصيل حياة كل ضحية قابلتها فقرروا إزاحتى عن طريقهم لفترة من الزمن، كلها أسباب أودت بي في نهاية المطاف مستقلاً سيارتي عائدًا إلى البداية إلى بيتي القديم.

 

 دلفت إلى المطبخ أتحسس خطاي فلا أود أن أكسر شيء لا أعلمه، أي نعم هو بيتي لكن لا أحفظ ما به أو لم أحاول حتي حفظ معالمه في دهاليز عقلي فهو بالنسبة إليَّ مكان مؤقت وأعود منه إلى حياتي خلال أيام، أعددت شطيرة وتناولتها على ضوء شعلة مصباح الكيروسين المتراقص فليس بالبيت شموع، عدت أدراجي للغرفة وغيرت ثيابي بمعطفٍ ثقيل فقد قررت الخروج خوفاً من أن يأكل عقلى بعضه بعضاً من الملل.

لا أدري كيف ولا متى وصلت وجلست قرب شاطئ النيل كل ما أذكره أنني غادرت البيت من ثلاث ساعات، مضى بي الوقت وأنا أطالع وجه الماء الهادئ وخاطري يلتهب بذكرى حكايةٍ حكتها لي جدتي مراراً في صغري، كنت أنا وأبناء عمومتي نتحلق حولها بعد أن تطفئ الأنوار وتشعل الحطب لنتدفئ به في برد ليل الشتاء ولتكتمل به أجواء تلك الحكاية. كانت تروي لنا قصصاً عن قوم من الجن سكنوا قريتنا هذه من قرون مضت.

حكت لنا عن حياتهم المشابهة لخاصتنا في غالب وجوهها، تقول: " كانوا قوماً مسالمين أعمارهم بين المائة والألف لا يتغير فيها حالهم فلا يشيبون ولا يمرضون، عُرفوا بالتجارة فكانوا يبيعون ويبتاعون ويتقاضون نظير بيعهم ذهباً، كانت حياتهم لا يشوبها صخب إلى أن أقدم قوم من بني البشر الرحالة على إعمار مكانً قريب منهم يسمى تل بنى المنذر، تآلف الجن والبشر وتبادلوا التجارة فيما بينهم لسنين إلى أن ولد للبشر جيلٌ أعمى الطمع أبصارهم وملأ الحسد والحقد صدورهم فبيتوا أمرهم بالإغارة على الجن وسرقة ذهبهم وأرضهم، وفي حالك ظلام ليلة شتوية أُشْعِلت النيران في قرية الجن، اشتعلت ولم يتمكن الجن من إطفائها فقد عُقِد عليها برصدٍ من الزئبق الأحمر، هنا فقط أدرك الجن أطماع البشر وأن لا نجاة منهم ومن نارهم إلا بالفرار إلى ماء النيل ومن تلك الليلة أقسم من نجا منهم على الثأر من أهل بنى المنذر لخيانتهم العهد وقتلهم الأبرياء بغير حق".

سكتت جدتي بعد قولها إنها ستكمل لنا في ليلة أخرى، أفقت من صمت ذكرياتي المفاجئ على صوت اضطراب صفحة الماء أمامي، من أين أتي فليست رياح الليلة بالعتو الذي يسبب اضطراب كهذا، أمعنت النظر أكثر عليِّ أرى ما يرضي فضولي، ولا أكذبكم القول لقد رضيت تمام الرضى بما رأيت: ضوءٌ ساطعٌ شق ظلام الليل والمذهل أنه آتٍ من تحت الماء، يبدوا أنني سأودع الملل بقية حياتي.


اقرا ايضا | 

بدء مؤتمر مسرحية «ملك والشاطر» بحضور أحمد عز ويسرا في الرياض