الكتابة للجميع!

ياسر عبد الحافظ
ياسر عبد الحافظ

لماذا نكتب؟
هذا واحد من أكثر الأسئلة تعقيدًا حول الكتابة، ربما أصعب فى معالجته من إتقان أساليب الكتابة نفسها، فهذه يمكن تعلمها عبر القراءات والممارسة والورش المتخصصة، إلا أنه ليس ثمة طريقة ما لوضع تصورات عن السؤال إلا بمعرفة بالنفس والعالم وما تنطوى عليه العلاقة بينهما من اتصال وثيق يتبادلان عبره التأثر والتأثير. 

لماذا نكتب؟ سؤال شائع للغاية، هناك مئات المقالات حوله، وهناك كتاب يحمل عنوانه السؤال نفسه، يسعى فيه عشرون كاتبًا أجنبيًا لتقديم الإجابات (صدر عن الدار العربية للعلوم، وقام على ترجمته فريق ترجمة متبرع كان النواة الأولى لمنشورات «تكوين» الكويت فى هذا الكتاب، وغيره، نلحظ بصورة لا لبس فيها ما ينطوى عليه الفعل من إشكالات تخص الطرفين اللذين بهما يكتمل فعل الكتابة: الكاتب والقارئ، وهى إشكالات تبلغ من الحدة بحيث تصف الكاتبة الأمريكية جوان ديديون الفعل بأنه «ممارسة عنيفة وعدوانية»، وهى لا تقصد بهذا شكلًا محددًا للكتابة، بل الفعل ذاته فى جوهره لأنه: «ما من طريق للالتفاف حول حقيقة أن وضع الكلمات على الورق هو أسلوب المتنمر السرى، إنه احتلال، فرض لعقلية الكاتب على أكثر مساحات القارئ خصوصية».

سؤال الـ «لماذا» سابق على عملية الكتابة وليس تاليًا عليها، المسألة كلها، شكل الكتابة، طريقتها، أساليبها، تترتب على الإجابة. مؤكد بالطبع أنها قد لا تكون واضحة تمامًا فى البداية، قد لا يتمكن الكاتب من التوصل إلى نظرية تخص ما يفعله إلا بعد مروره بتجارب عدة فى هذا المجال، كما أن علاقته بالقارئ قادرة على إعادة تشكيل أو استكمال إجابته، إنما فى كل الأحوال فلا بد من وجود تصور مبدئى يمثل نقطة البداية قبل وضع تصور لمشروع فى التأليف.

لكن دوافع الكتابة، هذه التى لن تجد كاتبًا أو ناقدًا إلا وأكد على ضرورتها، تبدو كما لو أنها أصبحت هامشية،تعرضت هذه الرؤية الكلاسيكية للكثير من التحولات فى قيمتها وأهميتها بالنسبة للكتابة مع تحول الفعل من عملية مقيدة بين كاتب وقارئ إلى ممارسة أوسع ضمت عناصر جديدة إلى الكاتب قبل وصول عمله إلى القراء، وقد طرأت التغيرات على مفاهيم النظر إلى الكتابة بعد أن حكمتها قواعد المنافسة، والمكسب والخسارة، بحيث بات هذا مطروحًا كأحد الأشكال للإجابة عن سؤال الهدف من الكتابة!




هذه التغيرات لم تنتج مباشرة بل نتجت على مدار عقود تسللت فيها أطراف عدة لتجد لنفسها دورًا فى عملية الكتابة إلى جانب الكاتب، لكن تلك الأطراف، وعلى الرغم من توسع دور بعضها، كالمحرر على سبيل المثال، إلا أنه تم استيعاب أدوارها والحد من تأثيرها، ثم موضعة العنصر الدخيل بحيث لا يفسد السؤال الأصلى حول الكتابة، غير أن تحولًا جديدًا يجرى مؤخرًا بشكل متسارع على عملية الكتابة لن يكون من السهل استيعاب أثاره،لا يكترث بالسؤال الأساسي: لماذا أكتب؟ بل ينطلق مباشرة إلى الكتابة كما لو أنها واحدة من أفعال الحياة العادية التى ليست فى حاجة إلى تفكير فيها قبل ممارستها، كالطعام والشراب والتنفس. 

أنتج الانفتاح التكنولوجي، ووسائل التواصل الاجتماعى ما يمكن تسميته «قارئ - كاتب» قارئ متمرد على وظيفته، لم تعد القراءة تكفيه، فأصبح يخلط بينها وبين الوظائف الأخرى التى تتطلب مهارات أعلى مثل الكتابة الإبداعية، والنقد.

الـ «قارئ - كاتب» هو مزيج من القارئ والكاتب فهو يتنقل بين المجالين مخالفاً القواعد، وبثقة كبيرة فى قوة أدواته التكنولوجية التى تمنحه القدرة على الوصول إلى الجمهور والتأثير فيه بشكل أعمق مما يفعل الكاتب المحترف الذى قد يقضى وقتاً طويلاً فى التفكير فى مسائل الجودة: ما هو الخيال وما هو الفن؟

المؤكد أن الموقعين ليسا ثابتين، لكن الأمر يتخطى مسألة الانتقالات الطبيعية والعادية، من القراءة إلى الكتابة، ليبدو وكأننا نشهد حقبة من السيطرة العامة على الكتابة لم يحدث لها مثيل فى تاريخ الكتابة، جميع مؤسسات الإنتاج الأدبى – دور النشر، المسوقون، محكمو الجوائز الأدبية – تضع أعينها الآن على هذه الشخصية الجديدة التى تقتحم سوق الكتابة، الـ «قارئ - كاتب» لأنها تعرف جيدًا أن أحكامه نهائية ولا تقبل الجدل؛ يمكن لانطباعاته أن تؤثر بما هو أكثر من الآراء النقدية التى يكتبها المحترفون، فهى ما يحرك سوق النشر اليوم.

الكتابة الاحترافية يقودها هذا الدفق الجديد من القراء - الكتاب الذين تحدد ذائقتهم أشكال الكتابة المفروضة والمقبولة لدور النشر، هذا ما يفسر، على سبيل المثال، الغرق، خلال السنوات الأخيرة، فى موجة الكتابة الأدبية المستوحاة مباشرة من التاريخ، فهى من الأعمال المرغوبة والتى تضمن النجاح مقدمًا.

تؤثر وسائل التواصل الاجتماعى على تفاصيل العالم بأكملها، تغير من الأشكال التقليدية، الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية، تغيرات حادة لا تتوقف عند المظاهر بل تغير من طرائق التفكير ذاتها، وهو بالمثل ما يجرى على الكتابة، ففى حين ضمنت أسواق النشر التقليدية سابقًا تواجد الأنواع المختلفة فالتحولات الحالية كما لو أنها تغير وجهة النظر حول الكتابة الاحترافية وبدلًا من مراعاة الاشتراطات المتفق عليها فإنها ومدفوعة بهوس المستهلكين الذين يشعرون بالملل بحثًا عن القصص السريعة تسمح بانتقال هذا القارئ، المتحفز لإنتاج ما يشبه حياته، من خانة «القارئ» إلى «الكاتب» غير أن هذا الانتقال غير المخطط له وغير المدروس، لا يستمر طويلًا وبدلًا من كونه إضافة إلى المنتج العام فى مجاله فإنه يتوقف عند حد إرضاء قارئ شبيه له متحفز بدوره لعملية انتقال متاحة بلا أسئلة ما.

ثمة من يقول إن الطريقة الوحيدة لإنتاج قطعة فنية فريدة هى فصل النفس عن المحفزات الخارجية: المنافسة والشهرة والنجاح، وإن ما هو استهلاكى يجب أن يبقى بعيدًا عن أى كتابة جادة، غير أنه من ناحية أخرى لم يعد فى استطاعة أى ممارس للفن، أى كاتب، أن ينأى بنفسه عما حوله وعلى هذا فالسؤال لا بد أن يبقى قائمًا: لماذا أكتب؟ لكن بشكل ما علينا التفكير فى تعميمه وبدلًا من كونه، كما كان عليه الحال، مقصوراً على الكتاب، فإنه يصبح متاحًا للقراء كذلك، هؤلاء الذين أصبح المجال مفتوحًا أمامهم للتحول إلى الكتابة من دون الاشتراطات السابقة.

وتعميم السؤال قد يصلح المعادلة الصعبة بين القراءة والكتابة والنقد، ليكون لدينا هذا القارئ الذى يحترف الأشكال الثلاثة بدلًا ممن سمّاهم أمبرتو إيكو «فيالق الحمقى»، هؤلاء الذين أنتجتهم وسائل التواصل الاجتماعى، وهم من: «كانوا يتكلمون فى البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا فى أى ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا، أما الآن فلهم الحق فى الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء».