من سيد اللعبة.. كيسنجر أم السادات؟

آمن «كيسنجر» بأن السادات والملك فيصل من بين أساطير المنطقة

السادات فى حواره مع كيسنجر
السادات فى حواره مع كيسنجر

بالتاريخ وبالحجر وبالبشر وبالورقة والقلم، يعرف الإسرائيليون ومن وراءهم الأمريكيون والموالون الآخرون أن صمت المدافع المصرية لا يعنى عجزًا بل هدوء يسبق أشرس العواصف العسكرية، ومع أول لحظة عبور لقناة السويس فى حرب السادس من أكتوبر وقف العالم على قدم واحدة ومعه البيت الأبيض بكل رجالاته.

ومن بين هؤلاء من سطر كتبًا مطولة فى رصد واحدة من أنصع صفحات تاريخ العسكرية المصرية بياضًا.

دبلوماسية هنرى فريدة شرق أوسطيًا بائسة عالميًا

إنديك: لو أخذ كيسنجر مقترحات السادات بجدية لتجنبا الحرب

لم تفهم واشنطن مغزى مصر من طرد 20 ألف خبير سوفيتى

عقيدة كيسنجر ترفض إقامة دولة يهودية لأنها بدعة

بعد 4 أيام فقط من حرب أكتوبر عاش الإسرائيليون شعورًا بالخوف والذل

نحن الآن عند الثامنة و35 دقيقة من يوم السادس من أكتوبر 1973، أمسك وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر بهاتف غرفته واتصل بكبير موظفى البيت الأبيض الجنرال ألكسندر هيج، خلال فترة ولاية الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون وبلكنة ألمانية طلب إبلاغ الرئيس بأنه «ربما نشهد حربًا فى الشرق الأوسط تدور رحاها اليوم» بعد رسالة استغاثة قادمة له من تل أبيب... وقد كان واندلعت الحرب.

فرصة هنرى

أمهل القدر الدبلوماسى «كيسنجر» 13 يومًا سُجلت خلالها معارك مصرية- إسرائيلية طاحنة ليبدأ رحلات مكوكية بين موسكو وتل أبيب ساعيًا إلى الإمساك بقواعد اللعبة التفاوضية فى وقت كان نيكسون غارقًا فى مشكلات فضيحة ووترجيت وبالكاد يؤدى مهام منصبه، لكن رجل الأقدار الجديد لم يدر ظهره لفرصة ستضع قدمى الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط وستمنحها دورًا جديدًا رفيع المستوى بوصفها وسيطًا للسلام.

حل الفتى اليهودى «هنري» مقيمًا على نيويورك عام 1938 قادمًا من مدينة فويرث الألمانية مع عائلته الهاربة من الاضطهاد النازي، وحصل على الجنسية الأمريكية عام 1943 قبل الخدمة العسكرية لثلاث سنوات فى الجيش الأمريكى وتحديدًا فى شعبة الاستخبارات بألمانيا، ولاحقًا دخل جامعة هارفارد المرموقة وحصل على الدكتوراه ليصبح واحدًا من أبرز عناصر «مجمع العقول».

آمن الشاب الأمريكى «الألمانى الأصل» مبكرًا بأن الحفاظ على المنظومة الدولية يتطلب تأمين توازن ثابت للقوى، بل وعندما وجه بوصلته التفاوضية فى الشرق الأوسط وضع نصب عينيه أطروحته للدكتوراه التى نشرت باسم «عالم مستعاد» فى سنة 1957، وتبنى الطريقة نفسها التى جرى الحفاظ من خلالها على النظام الأوروبى بعد الفترة النابليونية فى القرن الـ19 عبر تحقيق توازن القوى ببراعة والتلاعب بعداوات القوى المتنافسة، وهو ما سعى إليه بالفعل بعد حرب أكتوبر.

اقرأ أيضا| الفريق أول محمد زكى: قادرون على مجابهة أى تحديات تفرض علينا

عين الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون، كيسنجر فى ديسمبر 1968 مساعدًا لشئون الأمن القومي، ثم رئيسًا للمجلس من سنة 1969 إلى 1975، ووزيرًا للخارجية من سبتمبر 1973 إلى يناير 1977 وخلال تلك الفترة، كان كيسنجر شخصية شديدة التأثير فى إدارة نيكسون الذى استقال على خلفية فضيحة ووترجيت عام 1974 وخلفه جيرالد فورد. وهنا يتوقف محللون أمريكيون كثر أمام النفوذ الكبير الذى حصل عليه كيسنجر خلال تلك الفضيحة إلى حد «السلطة الاستثنائية». 

هبط «ساحر فيتنام» و«عراب الاتفاق» الأمريكي- الصينى بـ«مظلة دبلوماسية» فى لحظة ظل متربصًا لها مع اندلاع الحرب الأشهر بالشرق الأوسط، حاملا على كتفيه نظريته مع القضايا الدولية: «لا تقترب من أزمة إلا إذا كانت ساخنة».

بمشرط دبلوماسى حاول السفير الأمريكى السابق فى تل أبيب، مارتن إنديك، تشريح خطط كيسنجر لتحريك قطع الشطرنج السياسية عبر القفز داخل عقل الوزير هنرى ثم عرضها فى كتاب «سيد اللعبة… كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط»، فيروى عبر صفحاته أنه عندما تولى كيسنجر منصبه لم يخف تقديره الشديد لإيمانويل كانط – الفيلسوف الألمانى الشهير فى عصر التنوير فى القرن الثامن عشر – والذى كان يؤمن بأن السلام أمر لا مفر منه.

كانت خطة هنرى كسينجر، ومع تعدد الإدارات الأمريكية، هى عدم خسارة العرب مع ضمان أمن إسرائيل وقبل أى شيء هدف أسمى بطرد السوفيت من الشرق الأوسط. منح الحظ «السيد هنري» قبلة دبلوماسية بتسلمه حقيبة الخارجية الأمريكية قبل نحو 3 أسابيع من حرب أكتوبر، لكن العواصم العربية ومنها – القاهرة – قد اشتمت مبكرًا رائحة دعم الرجل لإسرائيل منذ أن تسلم زمام الأمور خلفًا لغريمه وليام روجرز.

ولطالما ردد كيسنجر، إن «الشرق الأوسط موطن لشخصيات رائعة، وهو آخر معقل يمكن لرجال ونساء عظماء الخروج من الصحراء والقيام بأشياء لا تصدق»، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بقوله إن شخصيات مثل أنور السادات وجولدا مائير وحافظ الأسد والملك حسين والملك فيصل آل سعود وموشيه دايان وشيمون بيريز وإسحاق رابين أصبحوا جميعًا أساطير. فقد تحلى كل منهم بطريقته الخاصة بالشجاعة اللازمة لمحاولة دفع شعبه نحو السلام.

بقدر خلفية التقدير هذه لكيسنجر، يتحدث مؤلف «سيد اللعبة» أن الوثائق كشفت عن ارتكاب هنرى عدة أخطاء طوال الطريق، بعضها كان له تكلفة بشرية عالية، والبعض الآخر له عواقب استراتيجية ما زالت تؤثر على عملية صنع السلام حتى الآن، فلو كان الرجل أخذ مقترحات السادات على محمل الجد منذ البداية لكان من الممكن تجنب وقوع حرب السادس من أكتوبر.

والمثير فى شخصية كيسنجر أنه تأثر بمواقف منظمة أغودات إسرائيل اليهودية الأرثوذكسية التى انضم إليها مع والده خلال فترة شبابه فى ألمانيا، وتمثلت عقيدتها فى رفض إقامة دولة يهودية لأنها بدعة، وأنه لا يمكن القيام بذلك إلا عند ظهور المسيح وفقًا لحاخامتهم، الأمر الذى منعه من الانضمام إلى أى حركة شبابية صهيونية.

تطور دراماتيكى

من واشنطن إلى قلب القاهرة، أدرك أنور السادات أن الحرب لن تكون ضد إسرائيل وحدها وعلى رغم ذلك حسم أمره واتخذ قرار الحرب. ما بدا عجيبًا أنه فى بدايات تصنيف الأمريكيين للرئيس الجديد لمصر خلفًا لزعيمها جمال عبدالناصر، كان أنور السادات ضابطًا لم يكن معروفًا ارتقى فى صفوف الضباط الأحرار لكنه درس سمات القيادة وصاغ نفسه على غرار غاندي. معروف بتدينه الشديد وتلقى تدريبه فى الكلية الحربية الملكية المصرية وسجنه البريطانيون بسبب نشاطه المناهض للاستعمار، وتدرج بمناصبه وصولا إلى رئاسة مجلس الأمة (البرلمان) ونائب الرئيس فى عام 1964.

بقدر ما تمتع به الأمريكيون من معلومات وأجهزة استخبارات متقدمة إلا أنهم اعترفوا بالمفاجآت التى حملها السادات فى مشواره الرئاسى لهم وللإسرائيليين والعالم أجمع، فلم يتوقع أحد أن يبقى الرجل فى منصبه لفترة طويلة إلى حد وصف تقييمات المخابرات الأمريكية له فى ذلك الوقت بأنه «رجل ضعيف»، بل وقدرت المخابرات المركزية فى واشنطن أن حكمه لن يستمر أكثر من ستة أشهر. وإسرائيليًا قدرت شعبة الاستخبارات العسكرية فى تل أبيب السادات على أنه «ضيق الأفق وضعيف المواهب» ما جعل كيسنجر لا ينظر إليه بجدية.

كانت مصر أكثر الدول تأثيرًا من الناحية العسكرية فى العالم العربي، وكان يحكمها زعيم لم يأخذه الأمريكيون ومن خلفهم العالم على محمل الجد. وفى عام 1971 حاول السادات – يقول الكاتب – إظهار جديته وإحساسه بالإلحاح من قبل شعبه من خلال إعلان ذلك العام ليكون «عام الحسم» فى مصر. ولكن على رغم مبادرته الدبلوماسية فى فبراير 1971 لإبرام اتفاق مؤقت والمحاولات اللاحقة من روجرز ونائبه جوزيف سيسكو لحل النزاع دبلوماسيًا، عززت إسرائيل قبضتها على الأراضى العربية المحتلة. حتى السوفيت الداعمين الأهم لمصر أخروا إمداداتهم الهجومية إلى الجيش المصري. 

وفى 18 يوليو 1972، رد السادات بخطوة دراماتيكية لكنها محسوبة بدقة بإبعاد 20 ألف مستشار وخبير عسكرى سوفيتى من مصر على الفور، كما كتب الراحل محمد حسنين هيكل – المقرب من السادات حينها ورئيس تحرير جريدة الأهرام – قائلا: «كانت مسئولية مصر أن تحل مشكلة (لا حرب ولا سلم) بمبادرة منها».

اتضح لدوائر صناعة القرار فى القاهرة أن السادات كان ينوى التأكد من أنه لن يكون هناك «استرخاء عسكري» فى الشرق الأوسط ما لم تنسحب إسرائيل من الأراضى المصرية التى احتلتها عام 1967 أيًا كانت القوى العظمى التى قد تعلن ذلك.

قرار «طرد الخبراء السوفييت» فاجأ العالم باعتباره علاجًا بالصدمة، وفى مقدمة المتفاجئين واشنطن وتل أبيب. وهنا وبعد أن توقف كيسنجر قليلا أمام القرار قال كلماته الشهيرة: «لقد استهنا كثيرًا بأهمية السادات ولم يخطر ببالنا أبدًا أنه ربما كان يمهد الطريق للقيام بعمل عسكري».

فشل أمريكى

كشف تقييم مهندس الدبلوماسية الأمريكية عن عدم إلمامه بقدرة مصر على حماية قواتها المعززة حديثًا بصواريخ سام التى قدمها الاتحاد السوفيتي، حيث كان يرى القوات المصرية منتشرة على الضفة الغربية للقناة برعاية سوفيتية تحت غطاء وقف إطلاق النار الذى تفاوضت عليه الولايات المتحدة فى عام 1970، ولكن مثل الإسرائيليين كان لهذا الفشل المعلوماتى عواقب كثيرة.

على رغم التحذيرات التى قدمها كيسنجر فى أحد لقاءاته مع المستشار الأمنى للرئيس السادات، حافظ إسماعيل، بدا الوزير هنرى منتعشًا بلقب «رجل الأزمات» حين تحدث لإسماعيل بقوله: «إذا كنت تريد منا التدخل لدى إسرائيل؛ فسيتعين عليك خلق أزمة، فنحن لا نتعامل إلا فى إدارة الأزمات». وخلص إسماعيل إلى أن كيسنجر يريد من مصر أن تشن حربًا ضد إسرائيل.

إذن عاش العالم بين جبهتين إسرائيلية «أمريكية من وراء حجاب» ومصرية على رأس هرمها السادات، وبينهما منافسة على موقع «سيد اللعبة» ومحرك قطع الشطرنج. 

تجدد الفشل الأمريكى – الإسرائيلى فى 28 سبتمبر 1973 أى قبل ثمانية أيام من اندلاع الحرب، وبينما كان كسينجر يخطط لإرهاق العرب عبر السير فى طريق طويل للمفاوضات، بدأت موسكو فى إجلاء رعاياها من القاهرة ودمشق، وعلى رغم ذلك لم يعتقد مستشارو «مستر هنري» أن هناك تخطيطًا للحرب. بل ذكر الملحق العسكرى فى السفارة الأمريكية بتل أبيب أن الإسرائيليين لا يرون أى تهديد فى هذا الوقت من سوريا أو مصر، واندلعت الحرب بعد أيام قليلة.

سلسلة الأخطاء الأمريكية امتدت إلى تقديرات بأنه بحلول الثامن من أكتوبر أى اليوم الثالث للحرب ستتمكن القوات الإسرائيلية من التقدم إلى القاهرة ودمشق، لكن تأكد كيسنجر أن أداء إسرائيل لم يكن كما توقع.

هنا انتقلت النظرة الأمريكية «الكيسنجرية» من سوء التقدير إلى الرعب، فمع اليوم الرابع للحرب، الثلاثاء، 9 أكتوبر 1973، ذهب هنرى إلى الفراش معتقدًا أن الوضع جيد كما قال له مجموعة العمل الخاصة بواشنطن فى وقت سابق من المساء، ثم اتصل به الرئيس وعزز تقييمه. وأضاف: «يعتقد المصريون المساكين أنه بإمكانهم العودة من القناة التى عبروها بعد نسف جميع الجسور التى عليها».
احتلال دمشق

بعد أربعة أيام فقط من الحرب، تحول الإسرائيليون فجأة من قناعة متعجرفة ورضا عن الذات بأن بلدهم الصغير أصبح القوة العظمى فى الشرق الأوسط إلى خوف مذل ورهبة من أن وجودهم ذاته أصبح حينها على المحك. وما إن حل اليوم الخامس للحرب العاشر من أكتوبر، استعاد كيسنجر جذوره اليهودية التى تميل إلى انعدام الأمن. وبذلك تغيرت نبرة التسليح لتصبح تلبية طلبات إمداد السلاح الإسرائيلية للتأكد من ممارستها الضغط على خصومها العرب.

مع اليوم السادس من الحرب، قررت إسرائيل الضغط على الجبهة السورية، وبالفعل أجبر التقدم الإسرائيلى الفرقة المدرعة الأولى السورية على الانسحاب وهنا ناشد الرئيس حافظ الأسد «السادات» بشكل عاجل مهاجمة القوات الإسرائيلية فى سيناء لتخفيف الضغط على قواته، إذ كانت قوات الاحتلال على بعد 45 كيلومترًا من العاصمة السورية، والحديث يتزايد فى أروقة الأمم المتحدة عن قرار مرتقب من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار.. كان الهجوم الذى طلبه الأسد يتناقض بشكل مباشر مع خطة المعركة «المآذن العالية» التى وضعها اللواء سعد الشاذلى رئيس أركان الجيش المصرى والتى تقتضى ببقاء القوات التى عبرت القناة تحت المظلة الواقية لبطاريات سام، لكن السادات قرر أنه لا يمكن أن يتحمل مسئولية احتلال دمشق وبالفعل أمر بتحريك القوات.

فى اليوم التاسع للحرب، وفى ظل مشاورات وقف إطلاق النار، تعهد كيسنجر للإسرائيليين بإرسال إمدادات ضخمة، وهو ما حدث بالفعل بوصول ست طائرات «سى – 5 أيه» و22 طائرة «سي- 141» إلى إسرائيل وعلى متنها 1600 طن من الإمدادات يوميًا بواقع 50 طنًا فى الساعة، ووصف الأمريكيون ذلك لاحقًا بأنه «الجسر الجوى الأكثر إثارة فى التاريخ». أدرك الرئيس السادات أن هذا الجسر يضمن تزويد تل أبيب بعشرين طائرة فانتوم ومئات الدبابات (إم 60).

فى هذه الأثناء، أبلغ حافظ إسماعيل كسينجر برؤية مصرية واضحة وهو مطلب السادات بربط وقف إطلاق النار بانسحاب إسرائيلى كامل ثم دعوة كيسنجر لزيارة القاهرة. نتذكر هنا أنه قبل 8 أشهر، سخر كيسنجر من تلك الدعوة عندما نقلها إسماعيل فى أول اجتماع لهما، لكن وزير الخارجية الأمريكى الآن يتبناها بحماس شديد ليعرب عن ترحيبه برغبة مصر فى إقامة علاقات جديدة مع الولايات المتحدة.

وصلنا إذًا إلى اليوم الحادى عشر للحرب، 16 أكتوبر 1973، حيث تمكن آرئيل شارون وقوات إسرائيلية من العبور إلى الضفة الغربية لقناة السويس، بعد تجهيز كتائب المظلات الرئيسية بـ300 صاروخ مضاد للدبابات «LAW»، حصلت عليها تل أبيب عن طريق الجسر الجوى الأمريكي.

سُجل تحرك شارون تاريخيًا باسم «ثغرة الدفرسوار» والتى حاولت إسرائيل ومن قبلها كيسنجر تضخيمها حتى يتسنى لتل أبيب استخدامها كورقة ضغط على طاولة مفاوضات السلام. يشار هنا أيضًا إلى أنه وبعد نصف قرن على حرب أكتوبر، نشرت وزارة الدفاع فى العام 2023 وثائق نادرة بخط يد قادة الجيش عن خطط الهجمات وإدارة الحرب وتحطيم خط بارليف والقضاء على ثغرة الدفرسوار.

أزاحت الوثائق العسكرية هذا الستار عن تفاصيل العملية «جرانيت 2» المُعدلة، والتى تم دمجها مع خطة «المآذن العالية» لتشكل «العملية بدر»، وهو الاسم العسكرى داخل القوات المسلحة لحرب أكتوبر 1973.

واللافت هنا أن الوثائق النادرة كشفت تفاصيل مفاجئة حول الخطة المصرية لتصفية «ثغرة الدفرسوار»، عبر عمليتى «شامل» و«شامل المعدلة»، وهو الاسم العسكرى لعملية القضاء على الثغرة، والتى شهدت معارك ضارية وخسائر كبيرة من الجانبين، ولكن خسائر الجانب الإسرائيلى كانت أكبر لتتمكن مصر من سد أكبر قدر من الجيب العسكري.

اكتشف كيسنجر أن الرئيس السادات كان قائدًا عربيًا يعمل بمنطق مختلف، فبينما كان وزير الخارجية الأمريكى يقضى معظم اليوم بين اجتماعات البيت الأبيض ويتبادل المكالمات الهاتفية مع الدبلوماسيين السوفيت والبريطانيين حول توقيت وقف إطلاق النار، كان المصريون يشاهدون على شاشات التليفزيون استسلام حصن لحظانيت – آخر موقع إسرائيلى فى أقصى جنوب خط بارليف-، إذ كان لمشهد الجنود الإسرائيليين وهم يؤدون التحية للعلم المصرى المرفوع عاليًا تأثير عاطفى وقوى جعل المصريين ينزلون إلى شوارع القاهرة للاحتفال بانتصارهم على الإسرائيليين الذين زعموا أنهم لم يُقهروا من قبل.

بحلول اليوم الثانى عشر للحرب، ووسط نشوة كيسنجر تجددت أخطاؤه فى تقدير الموقف بالتقليل من التهديد الخليجى- السعودى فى إقرار حظر للنفط، وبعد ذلك بثلاثة أيام تلقى الوزير الأمريكى أنباء غير سارة بإعلان الملك فيصل فرض حظر كامل على صادرات النفط إلى الولايات المتحدة.. وبعد اليوم السادس عشر من بدء حرب أكتوبر صدر قرار مجلس الأمن رقم (338) والذى يقضى بوقف جميع الأعمال العسكرية بدءًا من 22 أكتوبر 1973 والذى قبلته مصر ونفذته ولكن خرقته كعادتها إسرائيل مما أدى إلى صدور قرار آخر يوم 24 أكتوبر والتزمت به إسرائيل اعتبارًا من يوم 28 أكتوبر، اضطرت بعدها تل أبيب للدخول فى مباحثات عسكرية للفصل بين القوات فى أكتوبر ونوفمبر 1973، بحسب موقع وزارة الدفاع المصرية.

فى كتابه «القيادة»، يقول كيسنجر: «حقق الهجوم المفاجئ الصدمة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وتبين عدم استعداد أجهزة استخباراتنا وخطؤها فى تقييمها المبكر الذى أشار إلى أن إسرائيل، وليس مصر وسوريا، هى الأقرب إلى شن هجوم مفاجئ، وأن هزيمة الجيوش العربية فى تلك الحال مؤكدة».
عن السادات

لقد نشأ السادات متدينًا وربى على تقاليد الإسلام وعرف المسيحية كطالب فى مدرستين مختلفتين من مدار الطبقة المتوسطة، كما كان محبًا للقراءة – هذا ما سرده كسينجر فى كتابه «القيادة» - ومع تطور شخصيته والتحاقه بالأكاديمية العسكرية الملكية فى القاهرة امتلك القدرة على المقاومة وتجاوز الصعاب من واقع ظروف سنوات حياته الأولى..

من وجهة نظر السادات – يقول كيسنجر فى كتابه – فإن مصر لم تكسب من الاصطفاف مع الاتحاد السوفيتى سوى قليل مقارنة بما عانته من جمود، ولكن أى تحالف مستقبلى مع الولايات المتحدة يجب أن يكون متماشيًا مع استقلالية قرار القاهرة. 

استقلالية نابع من قناعة سجلها فى حديثه مع كيسنجر بتأكيده أنه يجب ألا يسمح لأى دولة أجنبية بالتحكم فى توزيع القوات المصرية على الأراضى المصرية.
إن مفاجأة السادات ورحلته إلى القدس – فى رأى كيسنجر – من النماذج النادرة التى تمكن فيها حدث من صنع حد فاصل من التاريخ وغير جذرى من نطاق ما هو ممكن وما هو محال.

الكتاب:
«سيد اللعبة.. هنرى كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط».
المؤلف:
مارتن إنديك
المترجم:
ياسر محمد صديق

الناشر:
دار نهضة مصر