يوميات الاخبار

حكايات السفر

ريم بسيونى
ريم بسيونى

ريم بسيونى

شهر مايو بالنسبة لى هو شهر السفر. دومًا أعتبر فرصة السفر فرصة لجمع الحكايات وتدوينها. وهذا الشهر كان عامرًا بحكايات لا تنتهى. فهناك حكايات تنتظرك وحكايات تأتى لك كالهدايا.

 

رحلة الإمارات ـــ أبو ظبى
 فى الإمارات كانت لى حكايات. سمعت عن تاريخ البادية وندرة الماء فى الماضى سمعت عن العلاقات التجارية بين الإمارات والهند وماذا كان ينتظر المسافر من العودة إلى بلاده. تختلط أحلام البشر وتتغير بتغير الأزمنة وجغرافيا الأرض. فى كل حكاية عبرة وإنسان. صادف أن التقيت بصاحبة حكاية هناك. أول ما لفت نظرى فى «صبحة محمد جابر الخييلى» هو اعتزازها بالملابس التراثية لموطنها. لا غيرت طريقة ملبسها ولا تملصت من عادات وتقاليد تميز منطقتها وموطنها. أعطتنى صبحة كتابًا كتبته بعنوان «وين الطروش». كتبت فى كتابها عن الحياة فى بادية أبو ظبى فى منتصف القرن العشرين. ما نعرفه عن حياة البادية، نحن سكان القاهرة قليل جدا. لذا فمثل هذه الكتب يفتح آفاقًا جديدة للتجربة الإنسانية. يوضح الكتاب قدرة الإنسان على أن يهزم الطبيعة القاسية تارة بالأشعار والإبداع، وتارة بالأمل والصبر. أعجبنى أن الكتاب ملىء بأشعار من البادية نفسها. كنت قد درست من قبل فى علم اللغة الاجتماعى -الذى أتخصص به- أن الشعر عند قاطنى الصحراء تدوين للحياة اليومية وبوح بكل مشاعر الخوف والحب، اليأس واليقين. الشعر شريان حياة. لم أتعجب فمازلت أجد فى الشعر الجاهلى والإسلامى صورًا جمالية مهيبة وتعبيرًا فذًا عن المعاناة الإنسانية بكل أنواعها. ولهذا حديث آخر.


ما أثرّ فى هو الحكايات البسيطة بين صفحات الكتاب. حكايات موت وحياة. حكايات أناس أدركوا أن الدنيا تتغير وتتقلب كتقلب القلوب والقدر على النار. الأيام لا استقرار لها.  أثرت فى حكاية الطفل الذى بعثت به أمه للبحث عن أحد الأغنام الذى ضل فى الصحراء وأعطته الماء فى حقيبته. نفد الماء وتاه الابن فى الصحراء الشاسعة ومهما بحث الأهل فالصحراء تنتصر أحيانا. قصة مشابهة حدثت لصاحبة الكتاب. تاهت وهى طفلة فى الصحراء ولم يكن أمامها سوى اقتفاء الأثر الذى تعلمته منذ بداية حياتها. استطاعت العودة لتحكى لنا. ولكن بعض التائهين لا عودة لهم.


هنا المياه هى سر الحياة والموت. هى ما نبحث عنه وما نستقر حوله.
تحكى صبحة عن حياة البدو قائلة: «كنا كالجسد الواحد جيرانًا وأخوة وأنسابًا. تجمعنا الأماكن وتفرقنا لتجمعنا مرة أخرى». ألسنا جميعا مثل أهل البادية؟ تجمعنا الأماكن ثم تفرقنا وتجمعنا مرة أخرى؟
تحكى عن إكرام الضيف والمشقة التى ربما تصاحب هذا، ولكن العزة والشرف هى فى إكرام الضيف حتى وسط قلة الموارد. تحكى عن أختها التى سارت على قدميها مسافة كبيرة جدًا ليلًا لتجمع الحطب لتطهو للضيوف الذين جاءوا من سفر فجأة.  ذكرتنى القصة بقصة مشابهة كانت تحكيها لنا أمى ونحن أطفال كانت قصة امرأة بدوية قل لديها الطعام ولم تكن تملك سوى شاة واحدة. فى ليلة وأطفالها جياع يبكون وضعت الوعاء على النار ووضعت بداخله حجر وهى تقول لهم إن الأكل على النار سيكون جاهزًا بعد قليل. يمر الوقت ولا يأتى الطعام. تضن الأم بالشاة حتى على أولادها، فلو ذبحتها لا يتبقى لها أى شىء. ثم يأتى عابر سبيل فى الصحراء فتعتبره المرأة ضيفًا يلجأ إلى بيتها وتذبح الشاة له هو ليأكل منها. يلاحظ الضيف بكاء الأطفال والوعاء الممتلئ بالحجر. فيخرج من عند المرأة ويعود بالأغنام والأموال مكافأة لها على إكرامها للضيف. للحق عندما كانت تحكى لى أمى هذه القصة كنت أتعجب بعض الشىء وأجد فيها بعض المبالغة، ولكن عندما نضجت أصبحت أبحث عما وراء الحكاية. عرفت أن جدتى أم أمى كانت أيضًا من أصل بدوى حتى ولو لم تعش مع البدو قط. فهذه قصص توارثها أجيال تحكى عن اختيارات قاسية يختار فيها البشر الكرم على الحاجة والشهامة على الأنانية. وجدت أثرًا لحكاية مماثلة بعد أعوام فى أحد كتب الصوفية القديمة. فيبدو أنها حكاية تراثية متداولة. الربط بين الحكايات يجعل الفهم أسهل والحقائق أوضح. من حكاية لحكاية أربط بين البشر ومعاناتهم وامتحاناتهم المختلفة. كنت طالبة عندما قرأت هذه الجملة فى رواية لإى أم فورستر «فقط اربط بين الأشياء». أصبحت هذه الجملة شعارى فى حياتى. عندما نربط ونوصل الحكايات بعضها ببعض، نفهم بعمق مختلف. بالمناسبة إى أم فورستر عاش فى بلدتى الإسكندرية بعض الوقت. هذا أيضًا ربط مهم.


نعود لحكايات صبحة عن الصحراء. تقول فى كتابها إن البدو فى الصحراء يعرفون أسماء النجوم. يتأملون السماء وينتظرون فصول السنة، فيتعمقون فى معنى الوجود ذاته.
تقول صبحة فى كتابها «استطاع البدوى أن يتفوق على الحياة بقسوتها وتحدياتها».
أعجبنى أن من تكتب هى امرأة تحفظ التاريخ وتعيد كتابته. هن النساء من يعلمن أولادهن الحكايات فيبقين على الهوية والتاريخ. فى علم اللغة الاجتماعى الذى أتخصص به نعرف أيضًا أن النساء هن من يحملن على عاتقهن الحفاظ على اللغة والإرث والتراث. مسئولية كبيرة تستحق العناء والعمل.  
تختم صبحة حكايات البدو بكلمات الشيخ زايد رحمه الله...التى تنطبق على كل وطن وكل مكان.
«فمن ليس له ماضٍ ليس له حاضر أو مستقبل».
أما معنى «الطروش» فلابد للقارئ أن يبحث عنه كما يبحث الرجل عن الماء فى البادية. أليست الدنيا رحلة بحث؟
رحلة النرويج ـــ أوسلو
النرويج بلد من أغنى بلاد أوروبا، فالنرويج لديها نفط وعدد سكانها لا يزيد على خمسة ونصف مليون نسمة. تم دعوتى لأوسلو عاصمة النرويج كباحثة فى علم اللغة الاجتماعى. بعد المؤتمر، دعتنى صديقة على العشاء فى بيتها الصغير. لاحظت لون البيت الأبيض والأثاث الذى يمتاز أيضا بألوان براقة كأنهم هناك يتحاشون ألوان الظلام ويقتنصون أى ضوء من الشمس.
وعدتنى صديقتى بزيارة إلى متحف الفايكنج. والفايكنج هم مقاتلون فى العصور الوسطى وثنيين ولكن قدرتهم القتالية جعلتهم قادرين على غزو الكثير من بلاد أوروبا وصلوا إلى بريطانيا ثم إلى فرنسا وهجموا على القسطنطينية نفسها فى القرن العاشر الميلادى أى قبل نشأة الدولة العثمانية.


مع أن تاريخ الفاكينج ملىء بالدماء إلا أنهم اكتشفوا جرين لاند وازدهرت التجارة فى أيامهم مع العرب.
مدينة أوسلو، عاصمة النرويج شيدها الفايكنج فى عام 1050. كنت قد درست تاريخ الفايكنج فى الجامعة لأن تأثيرهم امتد للأدب الإنجليزى وأثر على تطور الفكر الأوروبى فى العصور الوسطى.


تفاعل وتواصل المقاتلون الفايكنج مع الشعوب وتأثروا بهم واندمجوا معهم وانتهى تأثيرهم فى القرن الحادى عشر.
ومع ذلك فبلاد سكاندينيفيا ومنها النرويج تعتبر أن تاريخ المقاتلين الفايكنج تاريخ لابد أن تفخر به لأن تأثيرهم امتد إلى أبعد من بلاد الشمال ولأن اسمهم أصبح مقترنًا بالنرويج وغيرها من بلاد سكاندينيفيا.
ولكن السؤال هو ماذا ترك لنا الفايكنج من آثار؟
الإجابة فى يوميات الإثنين القادم بإدن الله .