قلب وقلم

يا صاحب الخطوة!

عبد الهادى عباس
عبد الهادى عباس

دائمًا ما يُحيطها الغبش من كل مكان فلا تظهر تفاصيلها كافة؛ فأضغط ذهنى لاستجداء تلك الذكرى الجميلة، فتنساب تباشير الرؤية تباعًا وكأنها شلال ماء دافق، فأستوثق منها، فإذا بالمنشد وفرقته يعتلون ظهر مقطورة جرار زراعى كبيرة، سارحين فى متاهات الوجد، والناس حولها يتمايلون فى حلقات الذكر، وكأنهم فراشات حول مشكاة نور غامر، يُرددون خلفه: «سلك الإدارة ضرب/ أنا قلت أشوف مين اللى طالبني/ آلوه/ مين/ جرّ آمين كلمني/ لاقيته مولانا سيدنا الحسين بيقوللى مرحبا يا ابني/ إحنا وضعنا الأساس وأنت عليك تبني/ أنا نمت وصحيت لاقيت الزين يعاتبني/ بيقولى بتحب وتنام/ دا يبقى فى شرع مين يا ابني!».


يتغلب الواقع وتتقطّع حبال الذكرى لترجع إلى مكانها المحفوظ فى أرشيف العقل، وتبرز كلمة الإدارة لامعة دون باقى الكلمات؛ حتى عند السادة الصوفية هناك إدارة ونظام، ونحن نتعلم منهم، ومؤخرًا تم افتتاح مسجد «رئيسة الديوان» كبيرة آل البيت و«الست المشيرة» التى تدير الاجتماعات الأسبوعية للنسل الطاهر، حسبما يعتقد المريدون والمحبون؛ فالإدارة فن كبير يُتقنه أصحاب الخطوة، لا أصحاب الحظوة؛ الذين يتغافلون عنه ويكتفون بالزعيق الحنجورى ولا يأخذونه بما هو حقيق به من علم ودراسة نحتاج إليها الآن قبل أى وقت آخر.


وليس المقصود بالإدارة دراية المدير بأضابير الأوراق ومتاهات الأختام وأكوام البريد الصباحى وتوقيع الإجازات والإعفاءات، فتلك مهمة يتساوى فى القيام بها الموظف الصغير والمدير الكبير، ولا يفضل فيها أحدٌ أحدًا فى علم أو تقدير؛ وإنما الإدارة الحقيقية هى الاستغلال الأمثل للإمكانات المتاحة فى المؤسسة، ووضع كل فرد فى المكان الذى يُجيد فيه دونما وساطة أو محاباة، وقد يكون هذا أمرًا بالغ الصعوبة فى مجتمع يكثر فيه الخلط بين العلاقات الشخصية التى تعتورها الخلافات تارة والمصالحات تارة أخرى، وبين مسئوليات العمل التى تقوم على هدف واحد هو تطوير المكان والارتقاء به.
ولكن الحقيقة تقول إن مصر قد قفزت عاليًا طوال السنوات السابقة، وكسرت الحاجز الجليدى لأهل الحظوة والثقة، واستعانت بأهل الكفاءة والدراية والدراسة فى استعادة الوعي، وقد رأينا ذلك فى العديد من الأعمال المجيدة، كما رأيناه فى التغييرات الأخيرة فى شتى المجالات.


وتاريخنا يشهد أن الأفكار الإسلامية فى فنون الإدارة قد سبقت بقرون طويلة تلك الدراسات الغربية، ولكنّ الواقع يشهد أيضًا بأنهم يُطبقون علومنا؛ ونقرأ أن الرسول الكريم رفض تولية أبى ذرّ، وأخبره أنه ضعيفٌ وأنها أمانة، وأنها يوم القيامة خزى وندامة، إلا من أخذها بحقها. فالدين والدنيا فى المنهج الإسلامى يحتاجان إلى شروط الإدارة الناجحة؛ فلا يجوز أن يُسافر ثلاثة دون أن يؤمِّروا أحدهم؛ و«أيما رجل استعمل رجلًا على عشرة أنفسٍ علم أن فى العشرة أفضل ممن استعمل فقد غشّ الله وغشّ رسوله وغشّ جماعة المسلمين»، وهذا للدنيا، حرصًا على الاجتماع ونبذًا للخلاف؛ وفى الدين: «أيما رجل أمَّ قومًا وهم له كارهون لم تجز صلاته أذنيه»؛ وحديث «كلكم راع» معلوم معروف، إضافة إلى عشرات التوجيهات النبوية التى تحضّ على السمع والطاعة فى غير معصية، منعًا للشغب والفتنة، فأحيانًا يكون «فى بعض الشرّ خيار»، مع الأخذ بكل حديث فى فنون الإدارة التى تُصلح أحوال الوطن وتدفع بمؤسساته إلى الأمام؛ وهذا ما تعمل عليه إدارتنا السياسية جاهدة تطبيقه والأخذ به فى المشروعات الجديدة.