يحيى وجدي يكتب: لأن الفن لا يحترق أبدًا.. افتتاح مسرح الجزويت.. ملحمة إعادة البناء بعد الحريق

يحيى وجدي
يحيى وجدي

بينما احتشد المدعوون أمام الباب المؤدي لمسرح “ستديو ناصيبيان”، طلب الأب جوزيف إسكندر اليسوعي، رئيس مجلس إدارة “جزويت القاهرة”، من جميع الحاضرين أن يمدوا أياديهم ولو بالإشارة من مكان وقوفهم، للمشاركة في قص شريط افتتاح المسرح التاريخي، العائد بعد عامين على احتراقه، وفيما قَص الأب مايكل زميط، الرئيس الإقليمي للرهبنة اليسوعية، الشريط، أطلقت الكاتبة نوارة أحمد فؤاد نجم “زغرودة” مصرية مدوية ابتهاجًا بالحدث وسعادة الحاضرين.

دلف الجميع إلى المسرح المُجدّد، أو للدقة الذي أُعيد بنائه بعد أن كان ركامًا ورماد، المجهود لا يُصدّق، فمن تابع ما حدث في ليلة 31 أكتوبر 2021 يُدرك حجم المأساة وقتها، ويلمس في المسرح الجديد القديم، حجم الإنجاز والملحمة التي تمت ليعود المسرح، الجميع في كلماتهم تذكروا وأشاروا إلى روح الأب وليام سيدهم اليسوعي، الذي كان الاحتفال أيضًا لمناسبة ذكرى وفاته الأولى في 12 مايو 2023.. روحه القوية الداعمة الملهمة والمشجعة، التي بثها في نفوس تلاميذه وزملائه في “جمعية النهضة - جزويت القاهرة”، مؤكدًا أن المسرح سيعود وأن الفن لا يحترق أبدًا.

حضور الاحتفالية الثلاثية.. افتتاح “مسرح ناصيبيان”، والذكرى الأولى لغياب الأب وليام سيدهم، ومرور 25 عامًا على تأسيس “جمعية النهضة الثقافية والعلمية”، لفيف متنوع من الشخصيات العامة والمسئولين والمثقفين والكتاب، لكنهم جميعًا يدركون أهمية هذا المسرح وأهمية وجوده في حي الفجالة وأهمية ما قدمه للحياة الفنية والثقافية وللفقراء تحديدًا، وبعضهم إما تبرع لإعادة بناء المسرح أو دعا للتبرع أو لعب دورًا في مخاطبة والتنسيق مع جهات مختلفة لدعم عمليه إعادة البناء، من بين الحضور الدكتور محمد أبو الغار، الدكتور زياد بهاء الدين، الدكتورة إيناس عبد الدايم، الدكتور سمير مرقص، الكاتبة عبلة الرويني، الدكتورة نيفين مسعد، المنتج جابي خوري، الإعلامية بثينة كامل، الكاتب أكرم القصاص، الروائي نعيم صبري، والروائي مينا عادل جيد.

في كلمتها ممثلة للمثقفين المصريين، قالت عبلة الرويني إن الاحتفال ليس فقط بعودة هذا المسرح المهم، وإنما هو احتفال بقيمة الإيمان بدور الفن والدأب في الحفاظ على مؤسساته، وهو ما يجب أن يمتد ليعيد إحياء مسارح أخرى في جميع أنحاء مصر احترقت أو ماتت بفعل الإهمال.

و”مسرح الجزويت”، هو في الأصل ستديو سينمائي تملكه أسرة ناصيبيان الأرمينية، ويعد ثاني أقدم ستديو تصوير سينمائي في مصر، بعد “ستديو مصر” الذي أسسه طلعت حرب عام 1935، أسسه المصور هرانت ناصيبيان عام 1937، على بُعد خطوات من المستشفى القبطي، وسط حي الفجالة المعروف بنشاطه في المطابع وتجارة الأدوات المكتبية المختلفة، وكان “ستديو ناصيبيان” يضم معملا لتحميض وطباعة الأفلام وقاعات لتسجيل الصوت والمونتاج، وهذا المعمل هو المكان الذي يشغله حاليا مقر “جمعية الجزويت” ومكاتبها، وبلاتوه لتصوير المشاهد الداخلية وهو مقر المسرح المحترق. 

طوال تاريخه، شهد الستديو تصوير العديد من أشهر أفلام السينما المصرية، وبعضها امتد تصوير مشاهدها للمنازل المحيطة بالستديو في شارع المهراني مثل فيلم “في بيتنا رجل” و”أم العروسة” و”خلي بالك من زوزو” و”معلهش يا زهر” حتى صار الشارع الضيق الذي كانت تحيط بها المطابع والمكتبات (تحولت الآن إلى محلات لبيع الأدوات الصحية) إلى بلاتوه سينمائي مفتوح.

في استوديو ناصيبيان، تم تصوير وانتاج نحو 150 فيلمًا، أقدمها فيلم “الدكتور” عام 1939 إخراج نيازي مصطفى، وفيلم “انتصار الشباب” عام 1941 إخراج أحمد بدرخان وبطولة أسمهان وفريد الأطرش، إضافة إلى أفلام “دعاء الكروان”، “باب الحديد”، “في بيتنا رجل”، “المراهقات”، “الخيط الرفيع”، “شفيقة ومتولي” “مولد يا دنيا”، وكان وكان فيلم “إحنا بتوع الأوتوبيس” إخراج حسين كمال بطولة عادل إمام وعبد المنعم مدبولي، آخر فيلم صورت مناظره الداخلية في بلاتوه “ستوديو ناصيبيان” عام 1979.

في بداية التسعينيات، اشترت الرهبنة اليسوعية مقر “ستديو ناصيبيان”، وأضافت جزءا منه لجراج مدرسة العائلة المقدسة إحدى أقدم المدارس وأعرقها في مصر، ويقع مدخلها على شارع بستان المقسي، بجوار المستشفى القبطي، وأصبح “ناصيبيان” هو خلفية المدرسة، حتى بادر الأب وليم سيدهم اليسوعي، بتأسيس جمعية النهضة (جزويت القاهرة)، في عام 1998، وأصبح مبنى معمل الطبع والتحميض مقرا للجمعية، وباتفاق مع الرهبنة اليسوعية، تم ضم جزء من مساحة “ستديو ناصيبيان” سابقا كمسرح للجمعية، بطول 22 مترا وعرض 9 أمتار، تمثل مساحة المسرح حتى احتراقه.

مع بداية عام 2000، تواصل الأب وليم مع المخرج المسرحي محمد طلعت، الذي كرّمته “جمعية النهضة” في احتفالية افتتاح المسرح، وطلب منه تحويل هذه المساحة إلى مسرح خاص لـ”الجزويت”، ولفقر الإمكانيات في البداية أقام طلعت خيمة على هذه المساحة، وعرضت بها فعاليات فنية وثقافية في شهر رمضان في ذلك العام، وكانت هذه الفعاليات الرمضانية  تأسيسا حقيقيا وعنوانا عمليا معبرا عن نشاط “جمعية جزويت القاهرة”، التي تتوجه للجميع بالفن والثقافة دون النظر لدين أو طبقة اجتماعية، ومن تلك الفعاليات قبل ما يزيد عن 20 عاما، بدأت رحلة مسرح “جزويت القاهرة”، أو مسرح “ستديو ناصيبيان” التاريخي، ليصبح أهم مؤسسة ثقافية مستقلة في القاهرة، مفتوحة للجميع بأقل التكاليف.

أما جمعية النهضة العلمية والثقافية (جزويت القاهرة)، فقد أسسها الأب وليم سيدهم اليسوعي وترأس مجلس إدارتها حتى وفاته، ويشغل منصب المدير التنفيذي لها الكاتب الصحفي سامح سامي، وتنطلق الجمعية، كما تعرف نفسها، من دور ثقافة الصـــورة في تنمية الإنسـان على مختلف الأصعدة، وتربط بين الإبداع وإظهار الطاقات الكامنة في الإنسان المصري، وتستهدف في رؤيتها العمل مع الأطفال والشباب كي يكون لهم عقل مستنير، وتحثهم على الإبداع والابتكار والنظرة النقدية وتغيير الواقع إلى الأفضل، كما تعمل مع شبكة واسعة من المهتمين لتحقيق رسالة الجمعية عبر العمل الجماعى الابتكارى الحر، وتضم الجمعية 4 مدارس، هي: “مدرسة السينما بالقاهرة والصعيد، مدرسة المسرح الاجتماعي (ناس)، مدرسة الرسوم المتحركة، مدرسة العلوم الإنسانية”، فضلا عن أنشطة أخرى متعددة منها مجلة الفيلم، الورش الحرة، نادي سينما “الجزويت”، ومساحات “جمعية النهضة”، ومسرح “ستديو ناصيبيان”.

على هذا المسرح، وخلال السنوات التي تلت تأسيسه، قدمت كل الفرق المسرحية والغنائية المستقلة التي نعرفها عروضها، فرق “وسط البلد”، “الورشة”، “ميريت”، فتحي سلامة، “جمعية الصعيد”، وجورج كازازيان.. غنت رباب حاكم، وقدم سيد رجب ودعاء حمزة وغيرهما عروض حكي، ويوم الأربعاء الأخير من كل شهر يستضيف المسرح “صالون الجزويت الثقافي” الذي يقدمه الكاتب هشام أصلان، وفيه استضاف العديد من ألمع الفنانين والكتاب، استضاف المخرج الكبير داود عبد السيد، الفنان هاني شنودة، الموسيقار راجح داود، الدكتور محمد أبو الغار، الشاعر الغنائي الدكتور مدحت العدل، وقبل الحريق بعدة أيام استضاف الصالون الكاتب الكبير محمد سلماوي.

 وعلى المسرح أيضًا كان يتم تصوير برنامج “سبرتاية”، وهو برنامج حواري فني يعرض على “يوتيوب”، وتقام بروفات الفرق المسرحية المستقلة، ومحاضرات مدرسة “سينما الجزويت”، ويتم تصوير العديد من الأفلام المستقلة، آخرها، قبيل الحريق بساعات، تصوير فيلم “باك ستيدج” للمخرج مصطفى الدالي.

في نهاية شهر أكتوبر عام 2021، شب حريق هائل قضى على هيكل المسرح وحيطانه، لكنه لم يقض على أهميته ودوره، وبملحمة من أبناء “الجزويت” عاد المسرح، فعقبى لكل مسارحنا وسينماتنا الأخرى.

;