محمد جادالله يكتب: العقل الأفلاطوني ومنهجه المعرفي (1 –6)

محمد جادالله
محمد جادالله

يرتدي تاريخ الفلسفة، من حيث هو تاريخ نظر العقل في العقل، اهمية استثنائية. فقد غدا، دون سائر الفروع التاريخية، موضوعاً لنفسه. فقد وضعت مؤلفات وعقدت ندوات عالمية حول تاريخ الفلسفة. وابتداءً من القرن التاسع عشر، قرن تمخُض المركزية الإثنية الأوروبية، بات تاريخ الفلسفة مركزاً لصراع أنثروبولوجي.

فالحضارة الأوروبية الغربية، التي قرأت نفسها حضارة عقل مطلق، أعادت على ضوء هذه القراءة النرجسية قراءة تاريخ الفلسفة. وقد كانت النقطة المركزية في إعادة القراءة هذه ما لا نتردد في ان نسميه تغريب (نفي)Occidentalisationالعقل اليوناني بوصفه العقل المؤسس للحظة ميلاد الفلسفة.

ولهذا تميزت الحضارة اليونانية عن غيرها بأن العلم كان فيها مباحاً، على خلاف البلاد الأخرى، لذلك كان من الميسور لعلماء الإغريق وفلاسفتهم أن يؤلفوا الكتب، ليودعوا فيها افكارهم، ويحفظونها لمن يأتي بعدهم. وقد بدأ تدوين هذه الكتب في القرن السادس قبل الميلاد، واشتد في القرن الخامس، ثم القرن الرابع، وأصبح بعد ذلك سنة مألوفة.

إلا أن في القرن الخامس قبل الميلاد سيطرت على الفكر اليوناني موجة من الحيرة والارتياب، وبلبلة الفكر نتيجة للسفسطة، وللجدل، وتضارب الآراء في قضايا الفلسفة وانتهت بهم إلي إنكار جميع الركائز الفكرية للإنسان، وإنكار المحسوسات، والبديهيات.

أي أنه اجتاحت التفكير اليوناني موجة من السفسطة في القرن الخامس قبل الميلاد، في عصر راجت فيه طريقة الجدل في ميادين الخطابة والمحاماة، وتضاربت فيه الآراء الفلسفية والفرضيات غير التجريبية تضارباً شديداً، ولم يكن الفكر الفلسفي قد تبلور، ولم يبلغ درجة عالية من الرشد العقلي، فكان هذا الصراع والتضارب بين المتناقضات الفلسفية سبباً لبلبة فكرية وارتياب جذري.

منذ فجر التاريخ كان للفلاسفة القدامى السابقين على أفلاطون ومن تبعهم من أعلام الفلاسفة الحديثة والمعاصرة كان لهم أثر بعيد في تطور نظرية المعرفة خاصة والفكر الفلسفي عامة. ولهذا تعتبر نظرية المعرفة قديمة قدم الفلسفة ذاتها.

وعلي ذلك، فإن البحث في المعرفة – وعلى غير المتوقع – هو بحث شائك بالغ التعقيد، سواء في المصطلح أو في الموضوع أو في المجال. ولهذا سأتناول نظرية المعرفة لدي أنبغ نوابغ الفكر، وأشهر الحكماء "أفلاطون".

فنجد أفلاطون تمسك بالعقل، وصنع له عالماً معقولاً تكمن فيه الحقيقة، وهو عالم سابق على العالم الخارجي، عالم الأشياء التي نراها ونلمسها. ووصف هذا العالم المعقل بعالم المُثل.

ومما هو جدير بالذكر أن نظرية المُثل، هي مركز كل الفكر الأفلاطوني. لجدلية فهو مذهب فكرة في حد ذاته، فمثلاً: الفيزياء هي مذهب فكرة يحتذى بها في الطبيعة، أو الأخلاق هي مذهب فكرة يحتذى بها في العمل الإنساني. لذلك يتم دراسة نظرية المُثل تحت عنوان الجدل.

كما قدم أفلاطون فكرته الأصيلة البسيطة التي تمثلت في ان هناك إلى جانب كل شيء متغير شيء آخر ثابت لا يطرأ عليه التغيير، وينبغي أن تقوم عليه وحدة المعرفة والسلوك، ومن ثم فلا علم إلا بالكلي الذي يظل دائماً في ذاته، وبذلك ارتبطت نظرية افلاطون في المعرفة بنظريته في الوجود والأخلاق.

أضف إلى ذلك عزيزي القارئ وصف أفلاطون المعرفة بأنها "اعتقاد مبرر وصحيح" حيث يجب على الإنسان لكي "يعرف" شيئاً ما أن يكون موضوع ذلك الشيء صحيحًا في ذاته، وأن يحوز الإنسان تبريرًا منطقيًا سليمًا لمعرفة صحة ذلك الموضوع، حيث يشترط ذلك التعريف تحقق ثلاثة شروط لكي يطلق القول بمعرفة أطروحة ما: أن تكون تلك الأطروحة صحيحة ومبررة، وأن يكون الإيمان بصحتها مبررًا كذلك.

كما ربط أفلاطون الفضيلة بالمعرفة. لأن من يفعل الشر، يفعله عن جهل. وهذا يعني أن العقل وحده هو مصدر الأخلاق. لذلك يكون التأمل المجرد وإهمال الجسد، هو الطريق لبلوغ الحقيقة والسمو بالأخلاق. لذلك سنفرد خلال المقالات القادمة توضيحًا وتفسيرًا شاملًا للمنهج الأفلاطوني المُتبع في تحصيل المعرفة.