الأشجار هنا وهناك

الأشجار هنا وهناك
الأشجار هنا وهناك

محسن يونس

فعلها أخيرا، وأخذنا معه فى طرفة عين، ولا يسألنى أحد ما: كيف فعلها؟ لأنى ببساطة جاهل أزلى فى هذه النقطة، فهى ليست لعبتى – أنا هنا لأقص القصة فقط - أقصد أننى لا أحمل عقلا يمكِّنُنى من الاهتمام بما أسماه قبلا، وصدع به رؤوسنا، وهو القدرة على اختراق الزمن، وطبيعى أن يتبع اختراق الزمن، تغير المكان، الآن وبصرف النظر عن أننا صدقناه أو كذبناه قبل أن نرى أنفسنا معه منتقلين دون سفر مرهق تتوالى فيه بلاد وطرق وجغرافيا، ومع هذا أصابنا رعب وخيبة، ونحن نكتشف انتزاعنا الفعلى من مكاننا فى حارتنا حيث كنا نجلس تحت تكعيبة من أشجار العنب فى ركن منعزل من كافيه يدعى «المنظر الجميل» إلى مكان موحش، على البعد واجهتنا أشجار كثيفة، وكدنا نسقط فى مناقشة عقيمة عن احتمال حمل هذه الأشجار ثمارا؟ أم أنها أشجار بلا ثمر؟!

الحمد لله لم نسقط فى ثرثرة تافهة، لأن ما نحن فيه فوق كل لت وعجن عن الشجر أصلا، أو أى شىء فى هذا المكان القفر الإلحاح فى عودتنا كما كنا نجلس من قبل مستمتعين بتدخين الشيشة، وشرب الشاى والقهوة بن محوج بالحبهان، استخدمنا ألسنتنا لنصرخ فى وجه من جاء بنا إلى الوسع الموحش فى زمن قديم، عرفناه من هؤلاء الهمج شبه العراة، لهم شعر رأس مشعث، جاءت إطلالتنا عليهم من فوق مرتفع، وهم هناك فى سهل يستخدمون الحجارة كسلاح فى الهجوم على بشر مثلهم عراة لهم نفس فروة الرأس ملبدة الشعر، وهم يردون الهجوم بهجوم مضاد بنفس السلاح أى الحجارة، حتى أننا أغمضنا عيوننا، ولكنا كنا نسمع انفلاق الرؤوس، بعد هبد الحجر!!

صرخنا فى وجه من جاء بنا إلى حقبة العصر الحجرى: «ماذا فعلت؟! كنا نريد منك أخذنا إلى زمن ومكان فى المستقبل، ولكنك جئت بنا إلى ماض سحيق.. أرجعنا حالا إلى كافية المنظر الجميل».

بانت لنا الورطة تنام داخل ورطة، أى والله كما قلنا: ورطة تنام داخل ورطة، أخونا الجهبذ أفضى إلينا بنقص علمه.. العَكَرُ حفظ صفحة الاختراق، وأول ما جرب جرب فينا، وغاب عن وعيه المضبب صفحة العودة!!

خيبة ما بعدها ولا قبلها خيبة، طيب.. هو مأفون، وما نحن؟!
بالله عليكم لا تفتحوا باب جلد الذات، فمن يدخل منه، لا يحصد إلا الحسرة فوق الحسرة، ولا يجد منفذا يستطيع من خلاله لملمة ضياعه، نحن شركاء، فلا لوم ولا عتاب، الهم يطولنا جميعا، كم من أفلام شاهدنا؟ الكثير الكثير.. كم من كتب قرأنا؟ هوووه.. هوووه.. كم من خطب وعظ وإرشاد سمعنا؟.. عد أوراق الشجر، عد حبات المطر طول فصل الشتاء لن تستطيع حصرها، هل هذه الإجابة تعجبك؟ إذن اختصر طالما أنها أعجبتك، ماذا تريد بالضبط؟ ما فكرتك؟.. فكرتى تتركز حول كيف ندخل الورطة بأقدامنا؟! القصد أننا نمتلك وعيا.. حكاية الوعى – وسوف نقاطعك - يا أيها الصاحب فيها نظر.. ألا تصدق أن حكاية الوعى فيها نظر؟! لأن الأمر يتوقف عند أى مجال أنت على وعى به، أن تحصل على الوعى بجميع مجالات الحياة، هذا صعب المنال وربما يكون مستحيلا.. طيب قل لنا يا أبا الوعى كيف غُرر بنا؟! يا أخى والله شرُّ البَليَّة ما يُضحك، أنت منذ البداية أوضحت أنك لا مؤاخذة ثور الله فى برسيمه فى مسألة الماورائيات عند التحدث عن ولوج الزمن، أنا ثور الله فى برسيمه وأريد العودة الآن لحارتنا، بدأنا نسمع أصواتا غريبة تشبه الصراخ بدأت تتردد من بعيد، ربما من بين الأشجار إلى يسارنا فى امتداد ارتفاع نفس الأرض التى نقف على أديمها، دون أن يظهر من يصدرها، لعلها أصوات ديناصورات.

من قال أكد صحة قوله أو خطأه، بتعليق ألحقه بقوله: أقول لعلها.. لم يمنعنا تعليله من سؤاله: من أين عرفت أنها أصوات ديناصورات؟ سمعتها فى أحد الأفلام، لو كانت ديناصورات حقيقية فاقرأوا الفاتحة على أرواحنا، عدونا مباشرة – فالروح ما بعدها روح - نحو هضبة، كأنها سور ممتد يرتفع عن الأرض، أردنا أن نتحصن بجرمها المستطيل، نستند عليه بظهورنا وتكون وجوهنا نحو الوسع، يمكن أن تأتى عبره الوحوش، أى وحوش فنراها، بعد أن حصنا ظهورنا بكتلة الهضبة الحجرية، أحطنا دون سابق اتفاق بمن تخطى بنا حاجز الزمن، وصرخ هو لأنه ربما رأى غدرا فى عيوننا، وقال إنه لو أصبناه، فما الفائدة؟ هل تمكننا إصابته من العودة إلى جلسة كافيه المنظر الجميل كما طلبنا منه ونلح فى الطلب؟!

دفعنا التذكر إلى الضحك غصبا، لأننا تذكرنا مغادرتنا كافيه المنظر الجميل، دون أن نعطى لعامله المسمى رياض أثمان مشروباتنا، قلنا ماذا يقول عنا بعد أن اختفينا من المكان؟! 

يشاء الله بعد أن تجاوزنا عن انفعالنا المغيظ، وما كنا ننتويه تجاه صاحبنا، أن ينجح فى الولوج بنا عبر جدار الزمن مرة أخرى – ولا أحد يسألنى كيف فعل هذا فأنا لا أعرف، أنا هنا كما قلت سابقا لأقص القصة - أثناء فترة الولوج وهى مقدار دقيقة كنا فرحين، وتساءل البعض هل نعود لكافيه المنظر الجميل أم إلى بيوتنا؟

حينما فتحنا عيوننا، وقد طلب منا إغماضها عقب دقيقة الولوج، تلفتنا حولنا.. ناح واحد منا بجد: ضعنا.. أقول لكم ضعنا فى أزمنة ماضية، بسببَ هذا الخرفِ الملعونِ..

كنا فى مكان آخر ارتعدت أجسادنا، والجليد يحيط بنا، كنا فى ثلاجة طبيعية، لا رحمة والبرد يتخلل عظامنا، ما الذى جعلنا نفقد شيئا كبيرا من رشدنا وأطعنا من يحفظ صفحة ولا يحفظ المقابلة لها، أى قلة عقل أعمتنا عن توقع النتائج؟! تجمدنا فى مكاننا مع أننا وجدنا طيورا تحلق فوقنا رائحة غادية، كيف تعيش فى هذا الصقيع؟! أكيد نحن اخترقنا الزمن نحو الماضى، وعلى وجه التحديد العصر الجليدى بلا شك، طاقة نور وسط الضباب البارد، أشار واحد منا إليها حيث رأينا خمسة أو ستة من الرجال أشعلوا نيرانا، وتحلقوها، قلنا إن علينا السير نحوهم، ومشاركتهم دفء النيران، نجنا يا الله من المخفى، هل كنا سوف نكون صيدا سهلا لهؤلاء المتحلقين حول النيران، أحدهم يغذيها بفرعين من الشجر الجاف، واثنان منهما يحملان.. لا.. لا.. لا أستطيع ذكر ماذا وضعوا فوق النيران، فالخلاصة هى أنهم مجموعة من آكلى لحوم البشر والعياذ بالله، تراجعنا على أطراف أصابعنا، وأحرقنا صاحبنا المتسبب فى وجودنا بعيوننا، وقد فهم أن يفعل فعله ليعود بنا إلى كافيه المنظر الجميل، أو أى حتة قريبة منه، فكل واحد منا يعرف طريقه إلى بيته، فلما فعل – ولا يسألنى أحد كيف فعل، فأنا لا أعرف، ولست مهتما، أنا أقص القصة – لحظتها أى زمن الدقيقة التى أمرنا فيها إغماض العينين، وهى زمن الولوج، تلقيت سؤالا قبل أن أطبق جفنى، فقلت بسرعة إن رأيى الشخصى فى المسألة التى نتعرض لها، ليس استعراض العصور القديمة، بل وجودنا بها قصرا أو عبطا أو قلة علم، الخطير فى الأمر هو وجودنا نفسه فى أزمنة لسنا منها، وأماكن عدوة لنا، ونحن لا يمكننا التوافق معها، وفتحت عينى، كنا فى نفس المنطقة الأولى من الولوج الأول.. ياللخيبة!!

كانت الأشجار على بُعد ما زالت، الحقيقة أن صاحبنا ظهر الارتباك فى كل حركاته، ووجهه يتصبب بالعرق، ويهرش فروة رأسه كثيرا، مما أكد أننا بالفعل ضائعون، فى مثل هذه المواقف يتوقف العتاب أو السباب أو أى فعل من عقاب بدنى، فالمصيبة أجلُّ وأعقد من أن يحلها رد عنيف، داهن صاحبنا اثنين منا، واحد على اليمين، والثانى على الشمال، كلماتهمْ حُملتْ بقدرٍ كبيرٍ منْ الرقةِ، وهم يطلبون منه أن يزيح عن نفسه أى قلق ويركز، فربما توتره هو السبب فى عدم نجاح التجربة، ربتا على كتفيه، كل واحد من ناحيته، وابتعدا ينظران نحو الأشجار، لمعت لحظتها فكرة جمع ثمار بعضها، وأكلها لسد نوبة جوع هاجمتنا، ثم التفكير فى كيفية المبيت، هل نبنى كوخا من أفرع الأشجار نأوى إليه ليلا؟ أم نترك لكل واحد منا حرية الاختيار، بين الكوخ الجمعى، وبين أن يصنع كل واحد كوخا له يخصه وحده؟!

أصغر ما فينا من شلة كافيه المنظر الجميل، لم يعجبه حديثنا، واندهش من سرعة استسلامنا، ووصفنا بأننا مجموعة من الخانعين سرعان ما يصيبهم اليأس، رددنا له الصاع صاعين كما يقال، مع أننا كنا نعرف أن اندفاعه وتلفظه القاسى فى حقنا ما هو إلا نوبة من نوبات فورة شباب لا أكثر، وضعناه أمام مشكلتنا، وأخبرناه أن يجد حلا يرجعنا إلى حارتنا، احمر وجهه وهو ينكسه قائلا بصوت خفيض: لا أعرف.. هو يعرف، مشيرا نحو صاحبنا المسبب فى مجيئنا إلى زمن تلو زمن من العصور القديمة، كل ذلك حدث مع تبرمات وزفرات غيظ، جعلته يحاول مرة أخرى، وصرخ: «يا قوى» فاخترقنا الزمن فى غمضة عين، فى اختراق كاذب إذا صح التعبير، لأننا وجدنا أنفسنا فى نفس المكان الواسع القفر كأننا لم نبرحه، هناك بعيدا ننظر نحو الأشجار، وهى فى هذه المرة كأنها تنادينا، فسرنا نحوها دون كلام.

اقتربنا وتوقفنا، قلنا فى مفاجأة: إن هنا يسطع نهار، بينما كنا نجلس فى كافيه المنظر الجميل ليلا؟! أى مفارقة والله، تفلسف واحد منا بعيدا عن ما ذكرنا فى شأن النهار والليل قائلا إننا – أى الجنس البشرى – بمناسبة اقترابنا من الأشجار كنا فوقها نعيش فى بداية وعى الإنسان بوجوده على الأرض، مرت القرون ونحن ننتقل من شجرة إلى شجرة، فالعالم كان غابة متسعة متشابكة الأغصان، وافرة الخير من فاكهة وديدان، وحيوانات وطيور، كانت تحت يدنا، لاحظنا أن الشجر كل واحدة منه لها عمر مثلنا، يبدأ وينتهى يوما ما، وكلما انتقصت الغابة شجرة ظهرت الأرض أسفلنا، كانت تدعونا إليها، ونحن ننظر إلى أديمها بفزع ورفض من النزول إلى أديمها!! 

بعد استيعابنا لحتمية الفناء، وقد وصلنا إلى التعرية الكاملة على الأقل فى المساحة التى كنا نعيش فيها، كنا بلا شجر، ووجدنا أنفسنا نقف منتصبين على سطح الأرض مستخدمين أرجلنا، هالنا ألا نجد ذيولنا فى مكانها المعهود من أجسادنا، كنا نبادل الفراغ اللكمات بأيدينا، ولم نتوقف عن السير، كنا نسير بالفعل نحو الشجر فى هذا الزمن الذى ولجنا إليه، صرخ بعضنا فى وجه المتفلسف، مدعين أن لا الوقت ولا ما نحن فيه من عدم معرفة كيف نعود إلى جلستنا على كافيه المنظر الجميل يسمح بأن نتكلم بتخريج ليس عليه دليل نمسكه بأيدينا، كما نمسكه بعقولنا فى نفس الوقت، إلا أننا وجدنا أنفسنا على بعد قريب من الأشجار، هللنا صائحين ساخرين من صاحبنا: «أشجار.. أشجار أيامنا الجميلة.. هيا إليها..».

تقدم بعضنا خطوتين، تراجعنا كلنا سواء من خطى الخطوتين أو لم يخطوهما، تراجعنا مصدومين، وأصوات صاخبة رافضة تنطلق على سهوة: «ابتعدوا وإلا شرحناكم كما ُتشرح الجثث».

رأينا الأشجار تحتل فروعها وأغصانها قرود من كل أمة، الغوريلا الضخمة، والبابون، والميمون، والمكاك، والكابوتشى، إلى جانب الشمبانزى، وقرود العواء، والسعادين!!

«هل هى التى تتكلم؟!».
لم نهتم بهذا كثيرا، لدينا الأهم، فهى قرود على أية حال، تقاربت رؤوسنا: «علينا احتلال هذه الأشجار، ربما نرجع لسيرتنا الأولى».
«كانت أياما جميلة».
«هل تسخر؟!». 
«لا والله لا أسخر، وحاشا لله».
عندما التفتنا قابلتنا عاصفة من الصراخ والتهكم: «سمعناكم تتحدثون عن ماض جميل؟!». 
عدنا تتقارب رؤوسنا، كنا نحاول وضع خطة..
سمعنا صرخة تختلط بقول حاد وباتر: «أيها المحبطون ارجعوا حيث كنتم..».
صرخنا نحن أيضا: «أيتها القرود لا تتجاوزون.. ألا يكفى أنكم قرود؟!».
كانوا يهبطون الأشجار مسارعين فى الالتفاف حولنا، كنا نسمع جملتهم، وهم يقتربون، تؤكدها الأنياب الطويلة، والمخالب الحادة: «سنشرحكم، كما ُتشرح الجثث..».
مفاجأة رؤيتنا لهم عندما غادروا الأشجار، يقفون على أقدامهم التى تشابه أقدامنا، ويلوحون بقبضاتهم، التى تشابه قبضاتنا، كانت حقيقة كاشفة، إنهم ليسوا قرودا، هذه الحقيقة جعلتنا نبدأ المعركة.